خبأ زهيرُ رأسَه بين كفّيه مغرقًا في التفكير...
صدره يشتعل بمشاعر كثيرة، غيظ وألم وغيرة ودهشة...
آخر ما كان يحسب أن تذهب الوردة السمراء التي كلِف بها يومًا ودبجّ لها القصائد والمنثورات إلى أحضان ذاك الذي يعرفه جيدًا ويعرف منبته وأخلاقه.
مذ رآها أولَ مرّة سحرتْه نظراتها الفاتنة، وابتسامتها المملوءة عذوبة دون أن تيسّر له شجاعته تكليمها، ثم بدأ يتشجع شيئًا فشيئًا، حتى عزم يومًا على تنفيذ خطة لذلك رسمها في ذهنه خلال يومين.
قدم مبكرًا إلى الجامعة يومها، جلس في أحد مقاعد المدرج الخلفية التي تيسّر للجالس فيها رؤية الداخلين والخارجيّن جميعًا فلا تضيع منه وسط الزحام، ثم رآها تطلُّ من باب المدرج الأمامي بلطفها ولباقتها وسحنتها السمراء الجذّابة.
رقبها وهي تبحث عن مكان بين المقاعد، حتى اطمأنت في مقعد اختارتْه، فسعى إليها وجلس بجانبها، وبدعوى طلب نص محاضرة بدأ حديثًا معها، فلم تردّه، بل ابتسمت ابتسامةً لطيفةً كانت بداية معرفتهما.
بعدئذ بات يحييها إن رآها، وتبسم له إن لمحتْه.يومًا بعد يوم كان حاجز الخجل يتهاوى في نفسه، حتى جاءت ساعة قرر فيها أن يصارحها بما في قلبه.
يومها جلس خلفها خلال المحاضرة، وترقب بلهفة نهايتها ليتجه نحو الشابة ويطلب مكالمتها على انفراد في شأن هام، فلم تمانع، وسارت معه حتى غدوا بعيدين قليلًا عن تجمعات الطلاب.
لقيها تنظر إليه كأنما تقول: هاتِ ما تريد.
تفصد جسدُه عرقًا، وغار لسانه في فمه حتى لم يقدر على تحريكه، تمتم بكلمة غير مفهومة، فسألته برقة وابتسامة تكسو وجهها:
- ماذا؟
خرجت الكلمة من فيه دفعة واحدةً دون أن يدري كيف تفلّتت منه:
- أحبك.
تورّدت وَجنتاها وأطرقتْ لحظةً، وقع خلالها في بئر من الأوهام، وراحت أعاصير الأفكار تتناوشه. أقبلَتْ واستحيَتْ؟ أم رفضتْ وهي تفكر الآن في الطريقة التي تصرفه بها عن نفسها؟
رفعت رأسها من إطراقتها تلك بوجه ران عليه الحزم والصرامة، كأنما لبستْ قناعًا كالحًا.
- صراحةً أنا أحترمك وأقدِّرك، فأنت زميلي وفي مقام أخي، لكنني لا أفكر بطالب من زملائي يقاربني في السن، ثم إن ظروفك المادّيّة وأنت طالب لا تناسبني صراحةً.
جمد في مكانه وقد نالتْه لسعةُ كلماتها وردِّها الحازم، أراد أن يناقشها، أن يطرح عليها حلولًا، أن يقول لها إن بإمكانه تجاوز هذه العوائقُ التي ذكرتْها، لكنْ عَيَّ نطقُه.
قطعتْ جوَّ الصمت الذي ساد لحظاتٍ بينهما.
-آسفة، أعتقد أن المحاضرة القادمة قد اقتربت... أستأذنك.
قالتها بوجه متجهّمٍ تملؤه الشدّة، لم تُبدِ له أي استعداد لمتابعة الكلام أو سماع ردّه، بل لم تكلّف نفسها عبء التبسم خلال كلامها، أو دعوته للمحاضرة القادمة بدافع الزمالة.
سار نحو باب الكلية بخطوات عرجاء، لم يحتمل جسده ثقل تحطُّم آماله بهذه الطريقة دفعةً واحدةً، كانت عيناه تخذلانه فيرى الأشياء تدور، اصطدم بشاب دون أن يعتذر، وكاد يفقد توازنه فيقع لولا أن تمالَكَ نفسه في اللحظة الأخيرة.
وصل البيتَ بمنتهى الصعوبة، ارتمى على سريره وهو يشعر رأسه يزن آلاف الأطنان، انتحب بكل ألم، انتحب لأحاسيس كثيرة اشتجرت في داخله وسيطرتْ عليه، حتى جعلتْ فؤادَه فارغًا، كأنما قد قُطِعتْ شرايينه وأُلقِيَت مزَقَها في أنحاء مختلفة من زوايا المكان الذي يجلس فيه.
أيقظه من عالم الذكريات المرير ذاك وبحرِها المتلاطم الأمواج صوتُ أمِّه تدعوه إلى كوب من الشاي، خاطبَها بلطف ومودّة شاكرًا معتذرًا عن دعوتها.
آآآآآه كم تألّم يوم فعلت ذلك به، بقي أسبوعًا طريحَ الفراش، ثم حين عاد ليداوم تعاملتْ معه بعدم اكتراث، لم تسأله عن سبب غيابه، ولم تتأثر لشأنه، كلّمتْه بشكل طبيعي، لكنْ دون أي عاطفة أو حرارة.
أخذتْ عدة أسئلة تتردّد في ذهنه: - أكانت هي منذ البداية هكذا وكان لآماله وعشقه يتخيل الدفء في كلماتها وحركاتها، أم قد غيَّرت أسلوبها بعدما دار بينهما لئلا يحس تقربًا يحفز مشاعره تجاهها؟
عدّل جلستَه، أسند ظهره إلى كرسيه، أصدر زفرة طويلة وهو يردّد بينه وبين نفسه:
- كل هذا فهمتُه، وتجاوزتُه فيما بعد، وقد خفّف عني كثيرًا أني لم أكن الوحيدَ الذي صدَّتْه عن بابها، أذكر أولئك الذين تهاووا عند قدميها فردَّتْهم، وتركتْهم يعانون الجروح التي فجرتْها في أعماق قلوبهم.
لكنْ.... اليومَ... بعد ست سنين، بعد أن تجاوزتُ ما كان ودفنْتُه في رمال النسيان.
بعد كل ذلك، شدَّني مرغمًا إلى جراح الماضي النبأ الذي سمعتُه، ثم رأيتُ بعينَيَّ ما يؤكده.
لقد خُطِبَتْ، لكن ليس لرجل غني ذي مركز وجاه كما كان يوحي ردها علي وعلى غيري.
قبلت بشخصٍ من زملائنا يسبقنا بدفعتين، لا يزيد علينا في منصب أو غنى، بل يقلُّ عنا في ميزان الحسب والأخلاق، نعرفه أنا وغيري ونعرف أخلاقه السيئة ووصوليته واستغلاليته، نعرف تلوّنه وتبديله جلدَه كلَّ ساعة كالحرباء.
كيف بحق الله؟ ما جذبها إليه؟ أَوَ لم تكن وضعَتْ قلة ذات اليد في مقدمة أسباب رفضها إياي ورفضها غيري كذلك؟
أم أكانت على مثل نفسه من الوضاعة وكان ينفرْها منا أن لسنا مثلها، حتى قابلت من يماثلها؟
وضع يده على خدّه، أخذ في شرود عميق، وقد بدا عليه أنه لن يخرج من شروده ذاك قبل وقت طويل.
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
قبلت بشخصٍ من زملائنا يسبقنا بدفعتين، لا يزيد علينا في منصب أو غنى، بل يقلُّ عنا في ميزان الحسب والأخلاق، نعرفه أنا وغيري ونعرف أخلاقه السيئة ووصوليته واستغلاليته، نعرف تلوّنه وتبديله جلدَه كلَّ ساعة كالحرباء.
هنا بيت القصيد استطاع ان يصل لها بكل ما لديه من قابليات لتتجاوز على ما رمته بوجوه الآخرين من حجج
في عالمنا نجد كل شيء