في النصف الأول من القرن الماضي وقبل الثورة الصينية كان قليل من الطغاة الرأسماليين يجثمون على صدور صائدي الأسماك الفقراء من الشعب الصيني . وكان الصيادون كباراً وصغاراً يُمضون الأيام والليالي بمراكب الصيد في عرض البحر . وعندما يعودون بعد عدة أيام بصيدهم يشتريه الإقطاعيون منهم على الساحل بثمن بخس ليربحوا فيه الأموال الطائلة فعمّ الفقر والجوع عائلات الصيادين . ************* هاي-هشيا تتذكر تلك الأيام الحزينة وتحكي لنا هذه القصة: انبعث ضوء خافت من الفانوس المضاء بالزيت وكأنّ الظلام الحالك بالخارج أقوي من احتمال شعاعه . ارتكبتُ خمسة أخطاء متتالية في خياطة شبكة الصيد التي كنت أخيطها فقد كنت قلقة كئيبة وأنا أفكر في صيادينا في عرض البحر . ثم زحفت إلي السرير بجانب أمي لأنام ولكن النوم جفاني وهرب من عيني فقلت: " أمي ، أحكي لي حكاية..أو أي شيئ ! " فقالت أمي: " ألم تنامي إلى الآن . الوقت متأخر جدا " قلت: " لا استطيع أن أنام . إنني قلقة ومتوترة " صمتت أمي طويلاً ثم سألتني : " هل تعرفين لماذا تكون أجنحة طيور النورس بيضاء؟ " قلت: " لا ، إنها بيضاء لأنها بيضاء...على ما اعتقد! " قالت أمي : " بل هنالك سبب . وسوف أقصه عليك " وبدأت أمي تحكي لي القصة الحزينة عن فتاة من صائدي الأسماك . ********************* كانت في الزمان القديم فتاة فقيرة من طائفة الصيادين اسمها يـُو- كـُو . وكانت شابة حلوة وذكية ومتفانية في خياطة شباك الصيد وذات إرادة حديدية . وكانت تفوق كل البنات في سرعة خياطة الشباك وفي الغناء الجميل . وكانت تحب شاباً في مقتبل العمر من الصيادين في قريتها اسمه يـُو- لانق . ********************** وكان هناك طاغية يحكم تلك المنطقة، ومنذ زمن وهو ينظر إلى تلك الفتاة بعين الرغبة الجامحة ويطيل فيها النظر فقد شغفته حبا، وصمم في نفسه أن يتخذها عشيقة في بيته! وفي ذات يوم وخطيبها يو-لانق بعيد عن القرية في رحلة صيد أرسل الطاغية عميله خصيصاً ليغري يو- كو ويغويها إلي منزله . قال لها: "إذا اسعدتِ السيد العجوز فسوف تحظيْن بكل ما تتمنيْن . كل الحرير والأقمشة الثمينة التي تحلمين بها ، وكل اللذائذ من طعام البحر والبر، والذهب والفضة والأحجار الكريمة، وستصبحين امرأة ثرية لك وزنك في المجتمع " ظلت يو- كو تخيط الشبكة والعميل يتحدث ولما فرغ من حديثه أعطته ردها غناءً: ******************* في بيت الطاغية يرقد الحرير الناعم الصقيل في صناديق مكدسة بعضها فوق بعض وتوابيت الذهب والمجوهرات الثمينة التي تـُذهب العقول ترقد هناك مضمخة بدم الفقراء ودموعهم قلب الطاغية الأسود ينبض حقداً وكراهية وهو في الوحشية والشراسة يفوق الذئب والنمر وفي الشر كالشيطان! ******************************** ولما رجع العميل وأخبر سيده بما سمع ورأي جن جنون الطاغية واستشاط غضباً وأرسل رجاله فجاءوا واستولوا على شباك يو- كو ومخزن ملابسها الضئيل وأثاثها المتواضع وأمروها بالخروج من بيتها الصغير وأوصدوا بابها بالشمع . ذهبت الفتاة المسكينة حزينة إلى الساحل تنتظر مقدم يو-لانق وتقول: ******************* الطاغية صادر شباكي وسرق منزلي وقمصاني وسلبني مسكني ومأواي بؤسنا وشقاؤنا نحن معشر الصيادين يفوق في عمقه عمق البحر! ************************** وعندما عاد يولانق بمركبه من عرض البحر محملاً بالسمك أخبرته يو- كو بما حدث قائلة: دعنا نتزوج الآن قبل أن تحيق بنا مصائب أكثر من الطاغية . فوافق يو-لانق وقال: سأبيع السمك أولاً ونحصل على مال ٍنتزوج به . وفي نهاية ذلك اليوم تزوجا . وفي المساء ذهبت القرية كلها لحضور حفل زواجهما والابتهاج بتلك الليلة . وفي منتصف الحفل ظهر الطاغية وعصابته وشقوا طريقهم وسط الحضور وأمسكوا بالعريس والعروس . ثم أمر الطاغية رجاله بحمل العروس إلي داره وبتقييد العريس وإلقائه في اليم . ولما تيقن يولانق بنية الطاغية في قتله وسرقة عروسته صاح قائلاً: يو- كو اثأري لمقتلي . قيدت العصابة يولانق وألقت به في البحر . وأغلق الطاغية يو- كو في غرفة في منزله الريفي وحاول الاعتداء عليها ولكنها صدته بعنف . ورفضت الأكل والشرب ولم تتوان لحظة عن سبه وإساءته وتحقيره فهاج الطاغية غضباً ولكنه لم يستطع فعل شيئ . وأخيراً استدعى الطاغية أخواته، ناعمات الكلام، للمساعدة . فجئن وقضين أياماً وليالي يلاطفن يو- كو بمعسول العبارات لحثها على الزواج من أخيهن ولكنها رفضت رفضاً قاطعاً ولم تكن لتغير رأيها وأنشدت تعبر عن كراهيتها للطاغية واشمئزازها منه: ********************** رغم مهارتكم في معسول الكلام وبريق الوعود وحلاوة ألسنتكم للإتيان بأسوأ ما في الوجود اعلموا أن للفقراء إرادة من حديد إرادة ٌلاتثنيها المُدي الحادة ولا تلينها النار الملتهبة ********************* ولما رأوا أن يو- كو لا زالت تؤمّل في عودة يو-لانق لإنقاذها قالوا لها: يمكنك أن تنسيْ يو-لانق فقد شبعت الأسماك من أكله طيلة الأيام الثلاثة الماضية! أقامت يو- كو نواحاً وعويلاً بصوت مرتفع عندما سمعت بهذا النبأ . ******************** قلت لأمي: " يالها من قصة حزينة فقد انهمرت دموعي رغماً عني وكاد قلبي يتفطر حزناً علي يو- كو . فقالت أمي: " ولكن الجزء الأكثر حزناً لم يأت بعد" واستمرت في حكايتها، ********************** لامت أخوات الطاغية يو- كو قائلات لها: " لماذا تبكين وتنوحين هكذا؟ لقد مات يو-لانق وذهب وانتهى . كُفي عن البكاء والعويل وافعلي ما يطلبه أخونا وإلا فستنوحين على نفسك أيضا " ******************** وفجأة قالت يو- كو بحزن شديد " لي طلب أريده منكن" تهللت أسارير الأخوات ظناً منهن أن يو- كو بدأت تضعف . وقلن متهللات في صوت واحد: "أي شيئ، أي شيئ تريدينه نحن على استعداد" ************************** قاطعتُ القصة غاضبة "يو- كو تلك تتلوى كمخلوق لا فقاري...إنها تستسلم !" فتوسلت أمي قائلة: "دعيني أكمل"..وواصلت القصة ******************************** طلبت يوكو منهن مقصاً وقماشاً من الحرير الأبيض . فسألنها لماذا ؟ فقالت إنها تريد أن تخيط لنفسها فستاناً تلبسه حداداً على يو-لانق . ولا بد لها من المقص والقماش لتصنع ذلك . ******************************* أخبرت الأخوات أخاهن الفاجر بهذا الطلب وتقرر إعطاء يو- كو ما طلبت . وخاطت يو- كو فستان الحداد ولبسته وظلت تبكي يو-لانق بحرقة . ولما كان اليوم الثالث للحداد عيل صبر الطاغية وطلب من أخواته أن يسألن يو- كو عن موعد يوم الزواج . ولما سألنها أجابتهن قائلة: ******************* "يوم الزواج سيكون عندما تجف البحار ، وتتحول الجبال إلي تراب . يوم الزواج سيكون عندما أقتل ذلك الشيطان الشهواني ، أخاكنّ " ************************** جن جنون الطاغية لما سمع هذا وقرر اغتصاب يو- كو بالقوة . وفي تلك الليلة عبّ من الخمر حتي ترنح ثم اقتحم غرفة يو- كو . ************* ولكن يو- كو كانت متأهبة لذلك . فسحبت المقص من تحت مخدتها واندفعت به نحو عنقه ! رفع الطاغية يده اليمني لدرء الطعنة فانغرز المقص في عينه اليمنى . فجرى خارجاً من الغرفة وهو يصيح من شدة الألم . *************** سألت أمي وقلبي يخفق "وماذا حدث ليو- كو؟" وتنهدت أمي بعمق وقالت: " وماذا تستطيع أن تفعل؟ لقد كان مبنى الطاغية ذا أفنية عديدة وأسوار عالية . وكان الطاغية ذو العين الواحدة هائجاً تصطك أسنانه ويبصق غلاً وحقدا . رُبطت يو- كو في فناء ٍ وجُمعت حولها حزم الحطب اليابس ثم أشعِلت النار في أكوام الحطب حتي رأت القرية كلها ألسنة النار والدخان فبكي الناس حزنا . ****************** وفجأة رأى أهل القرية بنتاً بملابس حداد بيضاء تطير خارج الجحيم المستعر ! ************** طالبت أمي قائلة: "كيف طارت ؟!" فقالت أمي: " لم تكن يو- كو هي التي طارت . فقد تحولت إلى طائر نورس ٍ ذي أجنحة طويلة رشيقة بيضاء وكانت تلك الأجنحة هي فستان الحداد لخطيبها يو-لانق!" كان النورس يردد صياحاً يعتصر القلوب . حاول أهل القرية تهدئته بأن يو-لانق لم يمت بل أنقذه صيادون تصادف مرورهم بالمكان الذي قذف فيه في البحر! ***************** يو- كو الحزينة في هيئة طائر النورس طارت لكل قارب صيد تنوح وتسأل إن كان فيهم يو-لانق قائلة: " يو-لانق ، يو-لانق!" إنها تبحث عن زوجها حتى يومنا هذا ! ********************** قلت لأمي: " أماه ، أنتِ نسجتِ هذه القصة من رأسك !" قالت: "لماذا؟" قلت: " لأن يو- كو كانت واحدة بينما هنالك الكثير جداً من طيور النورس" قالت: " وكذلك هنالك الكثير جداً من بنات الصيادين الفقيرات مثل يو- كو في هذا العالم!" ****************** بكيت في صمت . لقد كنت دائماً أظن أن دعاء النوارس دعاء جميل محبب ولكنه ليس كذلك الآن! وفي ظلام الليل الدامس وأنا أرقد في حزن كان يترامى إلى سمعي صوت النوارس " يو-لانق ، يو-لانق..." ************
حياك الله اخي الحبيب ا.سر الختم النجيب
قصة ميثالوجية من الطراز الاول
للصين حضارة رائعة
شكرا لجميل الانتقاء
شكرا لقلبك ..حياك قلبي
****************************
شاعرنا عامر وقد ابحر بخيال الشعراء مع الرواية الشعبية الصينية الحزينة