الجاحظ
(150هـ - 255هـ ، 767م - 868م)
أنا أبوعثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الفُقَيْمِيّ ولاءً. أشهر أدباء القرنين الثاني والثالث الهجريين وأوسعهم ثقافة. لقبتُ بالجاحظ لجحوظ عينيّ. ولدتُ في البصرة في بيت فقير، ومات أبي وأنا صغير، فقامت أمي على تربيتي. نشأتُ ميالاً للعلم. لكن عوزي دفعني إلى امتهان بيع الخبز والسمك بنهر سَيْحَان بالبصرة نهارًا واكتراء دكاكين الوراقين، أبيت فيها ليلاً للنظر والقراءة. وخالطتُ المسجديين، واختلفتُ إلى الكتاتيب، وتلقيت العلم والأدب عن العلماء والأدباء والشعراء والنحاة والرواة واللغويين .
ثم تركتُ البصرة إلى بغداد عاصمة الخلافة، وتابعتُ درسي هناك في مجالس أعلام العلماء، فأخذتُ اللغة عن أبي عبيدة والأصمعي والأخفش وأبي زيد الأنصاري، والمنطق والكلام عن النظَّام.
وبعد أن آنستُ من نفسي القدرة على الكتابة، رحتُ أروض قلمي، فكتبتُ في بعض أبواب الأدب ونشرتُ كتاباتي منسوبة إلى أعلام الكتاب السابقين والمعاصرين لي كابن المقفع وسهل بن هارون. ووجدتُ في تقبل الناس لهذه الكتب المنسوبة إلى أولئك الكتاب علامة على امتلاكي ناصية الكتابة، فأصبحتُ أنشر كتبي ورسائلي معلنًا أنني مؤلفها. وكان من تلك الكتب المبكرة كتاب في الإمامة، قرأه المأمون، فاستدعاني ونصّبني رئيسًا لديوان الرسائل، لكني استعفيتُ من عملي هذا بعد ثلاثة أيام فأعفيت.
وبعد وفاة المأمون لازمتُ وزير المعتصم، محمد ابن عبدالملك الزيات. فعشتُ في كنفه رضي البال أنفق عن سعة، وأنصرف إلى التأليف، وأرحل إن شئت فرحلت إلى دمشق وأنطاكية.
جمعتُ بين العلم والأدب، فكنتُ ملمًا بجميع معارف عصري من لغة وشعر وأخبار وعلم كلام وتفسير وطبيعة، وقد كنتُ كاتبًا متكلمًا معتزليًا، بل كنتُ رأس طائفة من المعتزلة عرفت بالجاحظية نسبة إليّ، وكنتُ ناقداً اجتماعياً عارفاً بخفايا مجتمعي وطبقاته وفئاته. وتعد كتبي ورسائلي وثائق يمكن الاعتماد عليها في معرفة جوانب المجتمع في عصري.
وكان زادي في كل هذا معرفتي الواسعة وملاحظتي الفاحصة والتجربة أحيانًا، مما يقربني من المنهجية العلمية، فقد اشتهرتُ بالشك بوصفه الطريق إلى اليقين، وبفضولي المعرفي، وبتجربتي لفروضه.
عُرفَ أسلوبي بإيقاعيته وقصر عباراته واستطراداته، مع روح ساخرة، سخرت من كل أشكال القبح في عصري حسِّياً كان أو معنوياً. وأوتيتُ مقدرة بيانية مكَّنتني من مدح الشيء وذمِّه.
ويرى مؤرخو البلاغة العربية أنني مؤسس الدرس البلاغي؛ بما عالجتُ من موضوعاته وأرسيتُ من مصطلحاته. وقد تركتُ مكتبة ضخمة من الكتب والرسائل. ومن أهم كتبي: كتاب الحيوان؛ البيان والتبيين؛ البخلاء.
كتاب البخلاء : هو أحد الكتب التي انتقدتُ فيها شريحةً من مجتمعي، فصوّرتُ فيه البخلاء وتصوراتهم وماتنطوي عليه من سخرية لاذعةٍ بسلوكهم. واتخذتُ من القصص وصناعة الأخبار وسيلة في هذا الكتاب، متهكماً بالبخلاء وبفلسفاتهم. ووفرتُ لهذه القصص معالم توهم بواقعيتها ممثلاً في أشكال الإسناد وتحديد أسماء لشخصيات واقعية، وأسماء مدن وقرى وطوائف كانت معروفة في عصري، بالإضافة إلى استعمال اللغة المحكية في حوار شخصياتي.
رسائلي : هذه الرسائل من الكثرة بحيث يصعب حصرها، وموضوعاتها متعددة، لكن يظهر فيها ماظهر في كتاب البخلاء من اهتمام بفئات مهمشة في كتب التاريخ الرسمية، مثل خيال لصوص النهار، حيل سراق الليل، ورسائل القيان، والبرصان والعرجان والعميان ومعلمي الصبيان، والترك.
وأما رسالتي التربيع والتدوير فقد فتحت في النثر باباً عُرف بالرسائل الأدبية، ونالت من الشهرة والحظوة ماجعلها تسبح وحدها في هذا المقام.