مدحت خلفاء بني أمية على أنهم أولى الناس بتراث الخلافة، وأحق الناس بالملك، وهم كالقمر يهتدى به، وسيوفهم هي سيوف الله التي يضرب بها الأعداء، وإذا النصر حليفهم، لأن الله معهم، وإذا الهدى مشرق من وجوههم، منهم الهادون والمهديون.. وتذكر الكتب والمراجع، أن الخليفة "هشام بن عبد الملك" حج على عهد أبيه وطاف بالبيت، وحاول أن يصل إلى الحجر الأسود فلم يستطع لشدة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس، وحوله جماعة من أهل الشام. وفيما هو كذلك أقبل"زين العابدين" فطاف بالبيت، ولما انتهى إلى الحجر انشقت له الصفوف ومكنته من استلامه، فقال رجل من الشام لهشام:
من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟
فقال هشام"
لا أعرفه، وخاف أن يذكر اسمه فيرغبهم فيه.
وكنت حاضرًا فقلت: أنا أعرفه.
فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟، فقلت قصيدتي الشهيرة في مدح زين العابدين، فغضب هشام وحبسني، فهجوته.
وها هي قصيدتي التي مدحت فيها "زين العابدين":
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته = والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم = هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله = بجده أنبياء الله قد ختموا
ما قال لا قط إلا في تشهده = لولا التشهد كانت لاءه نعم
إذا رأته قريش قال قائلها = إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
شعري في الفخر :
كنت أمزج بين الفخر والهجاء، فالهجاء عندي موضوع في جو فسيح من الفخر والتبجح... أما موضوع فخري فهو في قومي ونفسي، وفخري بقومي اشد منه بنفسي، إنني أعز الناس بيتًا وأرفعهم شرفًا وأوسعهم خيرًا وكرمًا، وهم ذوو العقول التي توازي الجبال، والثبات الذي لا يزعزع..
ولقد برعت براعة فائقة في الفخر، ذلك لأن شرف آبائي وأجدادي قد مهد لي سبيل القول بالفخر، وتطاولت على جرير وتحديته أن يأتيني بمثل آبائي وقومي:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم=إذا جمعتنا ياجرير المجامع
فيا عجبًا حتى كليب تسبني= كأن أباها نهشل أو مجاشع
وهذه أبيات أفخر فيها بنفسي وبقومي:
إن الذي سمك السماء بنى لنا = بيتًا دعائمه أعز وأطولُ
أحلامنا تزن الجبال رزانة =وتخالنا جنًا إذا ما نجهلُ
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا= وأبو يزيد، وذو القروح،وجرولُ
فكرة عن النقائض الشعرية :
النقائض قصائد امتزج فيها الهجاء والفخر، وكثرت فيها الإشارة إلى ماضي القبائل في الجاهلية وحاضرها في عهد بني أمية، يقول الشاعر قصيدته، فيرد عليه خصمه بقصيدة من وزنها وقافيتها ويتعقب أفكاره ومعانيه، فيردها عليه..
على أن فن النقائض نشأ أول ما نشأ في العصر الجاهلي وامتد حتى ازدهر في العصر الأموي الذي استيقظت فيه العصبية بعد أن أضعفها الإسلام، وانضمت إلى العوامل القبلية عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية وشخصية.. فكانت نقائض هذا العصر تختلف عن نقائض العصر الجاهلي بطولها وإفحاشها واتساع الخيال فيها..
هذا ومن المعروف أن النقائض تقوم على الهجاء، وفن الهجاء بدوره قائم على أمور ثلاثة: الأول أن يذكر الشاعر معايب خصمه ومثالب قبيلته بنفسه وبقبيلته..
والثاني تناول الأغراض وقذف المحصنات والشتائم..
والثالث تصوير الخصم بصورة ساخرة تحمل القارىء أو السامع على الضحك..
شعري في الوصف :
كنت واسع الخيال، دقيق الملاحظة، جيد القصص، مما ساعدني على أن أكون من ابرع الوصافين في العهد الأموي، أما موصوفاتي فكثيرة، منها ما هو منتزع من البادية كالذئب، ومنها ما هو من حياة الحضر كالسفينة والجيش.. ويصطبغ وصفي أحيانًا بصبغة القصص الذي أحسنت سرده، كما يمتاز بالتقرب من الحيوان المفترس والعطف عليه، ففي وصفي للذئب أظهر استعدادًا لأن ألبس ذلك الوحش من ثيابي وأن أقاسمه زادي.
فلما دنا قلت ادن دونك إني = وإياك في زادي لمشتركان
فبت أسوي الزاد بيني وبينه = على ضوء نار مرة ودخان
الهجاء في شعري :
إن ميزة الهجاء عندي هي الفخر أولا، فالشاعر في الهجاء يعتمد على الفخر والاستناد عليه، فبالهجاء ينقض الشاعر على خصمه فيوسعه شتمًا وذلا فيصوره حقيرًا، كما يصور قومه وأهله بأنهم يتصفون بأرذل الصفات وأقبح الطباع، فهم مثلا ضعفاء متخاذلون، بخلاء لا أصل لهم ولا فرع..
وبالمقابل فأنا أفخر بقومي وبنفسي، كما رأينا في هجاء جرير، والذي هو فخر لي بآن واحد.
وقد قلت في الضيافة:
ومستنبح والليل بيني وبينه = يراعي بعينيه النجوم التواليا
سرى إذ تفشى الليل تحمل صوته= إلي الصبا قد ظل بالأمس طاويا
حلفت لهم إن لم تجبه كلابنا = لأستوقدن نارًا تجيب المناديا
وقلت أهجو" إبليس" وقد تبت في أواخر حياتي:
أطعتك يا إبليس سبعين حجة = فلما انتهى شيي وتم تمامي
فررت إلى ربي وأيقنت أنني = ملاق لأيام المنون حمامي
أسلوبي :
لم يكن للإسلام والقرآن الكريم أثرهما العميق لا في حياتي العملية ولا في شعري، كنت في حياتي ماجنًا لاهيًا، لاهم لي إلا السعي وراء لذائذي، وكانت طبيعتي بدوية خشنة جافية، ولم تكن لي نفس جرير ولا عاطفته ولا رقة حسه، فكأنما خلصت نفسي لأثر البادية وحدها، فكان أسلوبي في شعري صدى لطبيعتي، وانعكاسًا لها، فاستأثرت به الجزالة والقوة وغرابة الألفاظ، وخشونتها وبداوة الصور، وغلبت هذه الطوابع على شعري عامة حتى على الغزل الذي تلائمه الرقة والعذوبة.