عاج في أحد الأشتية عند الأصيل على النبع –الذي أحبه ، وألفه كثيرًا ، والذي يعوجُ عليه كلما أشجاه خطبٌ- وجال حوله قليلًا بخطى وئيدة ، ثم اتجه إلى الأثلة ، واتكأ على جذعها الضخم ، وأغمض عينيه ، وسرح بفكره إلى حقبةٍ انصرمتْ ، ثم أفاق من شروده على قطرات غيثٍ تسقطُ على وجهه ، ففرد كفيه ، حتى اجتمعَ فيهما الكثيرُ من القطرات ، فشربها ، ورنا بطرفه إلى السماء ، والغيث المنهمر ، ثم قال : غادَرَ حياتي من غَادَرَ معهم الأُنْسُ والسُّرُورُ ، وأَقَامَ الشَّجنُ بعدهم بقلبي ولم يَبْرَحْهُ !
وأنتِ إن بقيتِ فلكِ الكرامة والزُّلْفى ، وإن ظعنتِ ، فأنتِ كمن ظعن من أحبابي الذين لم يبرحوا قلبي ، ولا عقلي ساعة ، فأنتِ أثيرةٌ ، حبيبةٌ في ظعنكِ والإقامة ، وستظلين كالشمس ، بعيدة المنال ، وتغمرين قلبي بالضياء والدفء ، فأستودعُ اللهَ قلبكِ الرقيق ، وروحكِ النقية !
ثم رنا بطرفه إلى القرية القابعة خلف الرابية ، وقال : أعرفُ السُّبُلَ المُؤَدية إلى المدن والقرى ، ولكني لا أعرفُ السَّبيلَ المُؤَدِّيَ إلى قلبكِ النقي ، فهنيئًا لمن اهتدى إليه ، وحظي بصدقه ووفائه !
عاد إلى الأثلة واتكأ على جذعها الضخم ، وسرح بفكره إلى ذلك العهد المحبب إليه ، ثم أخرج قلمًا وورقةً وكتب فيها : لا تسألي عن حالي ! فما حالُ من ينتظرُ أزوف تلك الساعة منذ عشرين عامًا ، ولم يَنْبَلجْ نُوْرُها ، رغم طول انتظاره !
أيتها الحبيبة : ها هي السحب البيضاء بهدوئها وصفائها ، ونقائها ، تُزيحُ الغيوم السوداء (المثقلة بالفتوة ، القوة ، الأماني العذاب) ، لتستحلَّ مكانها !
أيتها الغيمة التي لم تظلني من هجير السأم ، ورمضاء النوى : سأُلملمُ جراح الهوى ، وذكريات الحنين ، وأظعنُ إلى حيثُ أقضي ما بقي لي من أيامٍ قد لا تطولُ ، حتى تأتي تلك الساعة –التي سألتُ الله كثيرًا أن يُعجِّل لي بها- ، وتبزغَ الشمسُ التي انتظرتها عشرين عامًا ، لتُبدِّدَ ليل الشجى ، فإذا غمرتْ قَلْبَكِ أمواجُ الحنينِ ، بعد هذا الهَجْرِ الـمُضني ، فلا تُكَلِّفي نَفْسَكِ عناءَ القُدُومِ إلى مُلْتَقَانا عند النَّبْعِ ، لأني أكونُ هناكَ في الموْطنِ الذي حَنَنْتُ إليه كثيرًا في مَجْمَعٍ من أحبابِ قلبي الذي ظعنوا ظُعُونًا لا أَوْبَةَ لهم مِنْهُ !
طوى الورقة ، ثم مضى إلى حديقة منزل الفتاة ، ووصل إليها عند السَّحَر ، فتخطى السياج ، واتجه إلى الشجرة التي عندها طاولة القهوة ، وأحد النظر إلى فنجان القهوة فوقها ، وقال : ارتشفتُ هواكِ العذب ، كما ترتشفين فنجان القهوة المرة ، المحببة إليكِ ، مع فارق حلاوة هواكِ وعذوبته ، بحرقه ، وإنهاكه ، ومرارة قهوتكِ وسخونتها !
وضع الورقة في التجويف في بطن الشجرة ، ومضى ميمِّمًا وجهه شطر قرن الشمس الذي بدأ يلوحُ لناظره ، وهو يقول : كان الحبُّ غَيْثًا ، والنَّأْيُ عَيْثًا !
بعد العصر وبينما كانتِ الفتاةُ تتناولُ قهوتها ، لفتَ انتباهها ، بياضٌ في تجويف الشجرة ، فنهضتْ لتستجلي الأمر ، فوجدت الورقة ، ففضتها ، وقرأتها ، وعرفتْ كل شيءٍ ، وعَدَتْ مُسْرعَةً إلى النَّبْعِ ، لعلها تراه ، لتُنْبِئَهُ بأَسْبَابِ نَأْيِهَا ، وعندما وَصَلَتِ النَّبْعَ ، انتظرته إلى الغسق ، ولكنه لم يحضر لأنه كان في تلك الساعة يسمع قرع نعالهم !
قصّة قصيرة مستجيبة لفنيات ومنهج هذا الجنس الـأدبي الذي صار الأكثر شيوعا ورواجا
لغتها متينة وعالية السّقف ...بها استعمال وتوظيف للمجاز الذي قال عنه ابن رشيق القيرواني هو أبلغ من الكلام الواضح...تواتر الأحداث فيها دقيق بما منح قارءها لهغفة القراءؤة لمعرفة النهاية
نهايتها وقفلتها مشوّقة جدّا ومفتوحة على تأويلات عدّة
وعندما وَصَلَتِ النَّبْعَ ، انتظرته إلى الغسق ، ولكنه لم يحضر لأنه كان في تلك الساعة يسمع قرع نعالهم !
نهاية مؤلمة لحكاية تشبه حكاياتنا التي تغوينا بتلويحة من ربيع
فنقترب وإذا بها اصفرار خريف وخبو
تقت لسحر حروفكم ولأغاريد بلاغتكم كاتبنا المبدع عبد العزيز التويجري
انحناءة قد تليق بهذا الكمّ الهائل من الجمال
والكثير من التحايا والبيلسان