" لكي يعمل العقل ؛ عليه أن ينتقل من الذاكرة إلى التفكير عن طريق جسر الخيال "
إذا كانت الذاكرة هي أم الذكاء ومخه ،
فإن الخيال هو قلب الذكاء ، وهو الجسر الذي يربط
بين شاطىء الذاكرة بشاطىء التفكير ، ودائما
يكون اتجاه السير في اتجاه واحد ، وهو
الاتجاه من الذاكرة إلى التفكير .
فوظيفة التخيل ، أو الخيال هامة جدا" ،
وهذا الخيال واحد من أهم ثلاث مكونات للذكاء ....
ولا يمكن أن يكون هناك أبداع أو اكتشاف ،
أو اختراع بدون خيال ، فالخيال عنصر رئيس في
أية عملية أبداع أو اكتشاف ، أو اختراع .
والخيال يعوض النقص ، والقصور في
محدودية عمل الحواس ؛ مثل السمع ، والبصر ، والشم ، واللمس ، فالعين الآدمية ، لا يمكنها أن ترى مثلا" الفيروسات ، أو البكتريا ، أو الجراثيم ، عن طريق الرؤية أو النظرة العادية ، بدون أجهزة علمية حديثة ، لديها القدرة على التكبير الفائق ؛ مثل الميكروسكوب
ويمكن أن نتخيل شكل الفيروسات ، أو البكتريا ، أو الجراثيم ، الميكروبات ، عن طريق تخيل شكل صورة لها ، تم تخزينها سابقا" في الذاكرة ، كنا قد شاهدناها في كتاب ، أو في اى شيء أخر، وكذلك التيار الكهربائي ، لم يره احد بالعين المجردة ، ولكن يمكن عمل صورة تخيلية له ، نكون قد رأيناها في كتاب العلوم ونحن صغار ، أو في مجلة علمية ، وخزناها في الذاكرة ، فنتخيله كلما مر بنا ذكر التيار الكهربائي " لان حاستي البصر والسمع أكثر قصورا" عن رؤية كل ما حولنا " ( 1 ) [2] ولهذا فنحن نتخيل صور الكائنات ، أو الأشياء ، أو الموجودات التي يعجز البصر عن رؤيتها أو السمع عن سماع أصواتها .
والخيال لابد له من أساس حسي ؛ بمعنى انه لا يمكننا أن نتخيل شيء دون أن نكون قد رأيناه قبل ذلك ، أو تم وصفه لنا ، وكونتا له صورة في الذاكرة بناء على هذا الوصف ، فلا يمكننا أن نتخيل شيء دون أن يكون هناك منه صورة في الذاكرة ، يقوم الخيال بعد ذلك باستدعائها منها ، ؛ فلا يمكن لنا أن نتخيل الخط المستقيم ، أو نتخيل شخص دون أن تكون هناك صورة مسبقة منه في الذاكرة ، رأيناها قبل ذلك ، أو كوناها نحن في مخيلتنا ؛ ففي حالة الخط المستقيم مثلا" ؛ يمكننا تخيل عصا أو حتى شارعا" مستقيما" أو .......الخ ، وعندما نتخيل نحضر صورة الخط المستقيم من الذاكرة ، ثم نبدأ بالإضافة إليه ، بما تقتضيه عملية التفكير التي نقوم بها .
وعلى هذا فمن المضحك جدا" من الناحية العلمية أن يفسر مفسرو الأحلام في القنوات الفضائية ، أحلام من يحلمون في القرن الواحد والعشرين ، على أساس تفسير كتاب (الأحلام ) لمحمد بن أبى بكر بن سيرين ، وغيره من السابقين الاقدمين ؛ لان الرموز التي يستمد منها العقل أحلامه في وقت النوم ، والمخزنة في الذاكرة ، قد اختلفت وتغيرت كثيرا" عن عصر ابن سيرين ، ففي عصر محمد بن سيرين ، كانت أحلام الفرد تتشكل وتتكون من الرموز التي تم تخزينها في ذاكرة الفرد من بيئته التي يعيش فيها ، والدليل على ذلك : رؤيا رفيقى يوسف في السجن ، بالقصة التي ورد ذكرها في سورة يوسف بالقران الكريم ؛ ففي عصر ابن سيرين لم يكن هناك سيارات ، ولا طائرات ، ولا مصابيح تضاء بالكهرباء ، ولا قنوات فضائية ، ولا ....الخ ، فالفرد ليس خياله فقط يستمده مما خزنه في ذاكرته ، ولكن حتى أحلامه ورؤياه أيضا" .
إذن فالخيال في أساسه يعتمد على الذاكرة ، وبدون ذاكرة ليس هناك خيال ، فنحن عندما نقوم بتخيل شيء ، أو أمر ما ، فإننا نستعين بالذاكرة ، لنخرج منها صورة أو شكل ذلك الشيء ، أو الأمر الذي نتخيله ، فلا يمكن لشخص مثلا" أن يكون مهندسا" ، يصمم المباني ، والمنشات دون أن يكون قد خزن في ذاكرته علم هندسة وتصميم المباني ، وكذلك لا يمكن لطبيب ، أو تاجر ، أو ماسح أحذية ، أن يمارس عمله بإتقان ونجاح ، قبل أن يكون خزن في ذاكرته ، طريقة وعلوم الطب ، أو التجارة ، أو مسح الأحذية ، وعند العمل يعيد المهندس أو الطبيب أو ماسح الأحذية , ...ما خزنه في ذاكرته ، مارا" بالتخيل عند الفرد ، وكلما كان هذا المهندس ، قد خزن في ذاكرته علوم هندسية أكثر، كلما كان لديه الخيال أوسع وأقوى ، وكلما كان أكثر قدرة على التخيل ،وبالتالي سيكون ابرع ، واقدر ، على التصميم الهندسي الإبداعي ، وبطريقة أفضل ، وامهر ، وأجود.
وعملية التفكير أيضا" في جزء كبير منها تعتمد على الخيال ؛ فعندما نبدأ عملية تفكير في أمر ما ، فإننا نُحضر من الذاكرة عناصر عملية التفكير التي نقوم بها ثم نمررها إلى الخيال ليتخيلها ، ثم تدخل هذه العناصر إلى مطبخ التفكير . وبذلك تكون عملية التخيل وكأنها الجسد الرابط بين ما تم استدعاؤه من الذاكرة وبين مطبخ خلط وخيارات التفكير ، ولا بد من المرور بها لنقل عناصر عملية التفكير من الذاكرة إلى منطقة التفكير ، وكل ذلك يحدث بسرعة عالية لدرجة أننا لا نلاحظها .
مثال إفتراضى :- لو طلبنا من شخص يعمل في جمع القمامة ، أن يكتب لنا على الورق أغرب موقف تعرض له أثناء عمله ، فيبدأ يفكر ، فيعود إلى ذاكرته ليخرج منها ما حدث من مواقف غريبة ، ثم يتخيل ما حدث في هذه المواقف ، ثم يختار عن طريق خيارات التفكير الموقف الذي يراه غريبا" ،ثم يبدأ في كتابته ، أو إخراج نتيجة عملية التفكير على الورق ، ففي هذا المثال الإفتراضى عندما عاد جامع القمامة إلى منطقة الذاكرة أخرج منها عناصر عملية التفكير ( الأشخاص – الموقف – المكان – الوقت – الحدث ) ثم تخيل ما حدث سابقا" ، ثم أختار عن طريق عملية التفكير الموقف الذي يصلح لآن يكون غريبا" من بين مواقف كثيرة ،ثم أخرجه من عملية التفكير عن طريق يده على الأوراق ، أو عن طريق لسانه بالكلام ، ويمكن اختصار جميع السابق في الأتي :
تـــــــــذكر - تخيــــــــــــــــــل - تفــــــــــكير - إخـــــــــــــــراج الناتج عن هذه العمليات الثلاث .
والخيال ، أو التخيل نوعان هما : -
الأول وهو الخيال السليم : ؛ وهو الخيال الذي يكون بسبب الواقع ، ويكون نتيجة للواقع ، ويستخدم للتفكير من اجل الواقع الذي يعيشه الفرد ؛ فمثلا عندما تحدث مع شخص ما ، مشكلة مع زوجته ، وتذهب هذه الزوجة إلى بيت أهلها غاضبة ، فان زوجها عند التفكير في حل هذه المشكلة ، يتخيل زوجته وأهلها ، وكل من له صلة بهذه المشكلة ؛ فهذه المشكلة موجودة فعلا" في الواقع ، والتخيل ، والتفكير فيها من اجل مشكلة ، أو موضوع موجود فعلا" في الواقع ، والوصول إلى حل لهذه المشكلة ، سوف ينفذ ويطبق في واقع موجود فعلا"في حياة الفرد .
مثال أخر : عندما يتخيل احد المهندسين تصميم قطعة ارض طولها كذا وعرضها كذا ، فان قطعة الأرض موجودة فعلا" ، ويريد أن يقدم لها هذا المهندس تصميما" ، لينفذه في الواقع ، لأن قطعة الأرض موجودة فعلا" في الواقع .
للأطلاع على بقية هذا الموضوع يرجى الرجوع الى كتاب ( الذكاء والتلفزيون ) للمفكر والأديب / فؤاد سلطان e -mail: fost70@yahoo.com
* - قائل هذه المقولة هو ألبرت اينشتاين . نقلا" عن كتاب : الخلية الجذعية . تأليف خالد احمد الزعيرى – عالم المعرفة الكويتية فبراير 2008 : من الهامش الجانبي ص 19
1 – عقل جديد لعالم جديد . روبرت اورنشتاين ، وبول ايرليش . ترجمة د. احمد مستجير . الهيئة المصرية العامة للكتاب