وعلى الرغم من تلك الشهرة المدوية التي اكتسبتها الخنساء من بكائها الشعري لأخويها ورثائها لهما غير المسبوق في غزارته وقوته وشعريته المتدفقة وحرارته التي صارت النموذج الأول للرثاء في سمته الأنثوي، إلا أن المتابع لمسيرتها الشعرية سيصاب بالحيرة عندما يكتشف أن الخنساء لم ترث ِ أربعة أبناء لها غيبهم الموت استشهادا في يوم واحد!
فتقول الروايات، التي شكك بها البعض، إنها خرجت في معركة القادسية مع المسلمين في عهد عمر ومعها أبناؤها الأربعة. وقبل بدء القتال أوصتهم وصيتها الشهيرة والتي ختمتها بالقول «تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة".وعندما دارت المعركة استشهد أولادها واحداً بعد واحد، وحينما بلغها خبر مقتلهم لم تزد على القول: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».
فهل امتنعت الخنساء عن رثاء أولادها وهم، وفقا للفطرة البشرية، أقرب لها من أخويها، لأنهم استشهدوا تحت راية الإسلام، مع أن الإسلام لم يحرم الشعر ولا رثاء الشهداء؟ أم أنها لم ترثهم لأنهم غير موجودين أصلا؟ وأن الرواية برمتها مختلقة، كما يذهب بعض المؤرخين، وأحد دلائلهم على ما يذهبون إليه عدم وجود رثاء غير تلك الخطبة العصماء الفورية التي يفترض أنها صدحت بها فور سماعها لخبرهم القاتل؟! وبما لا يتوافق والموقف الصعب الذي وجدت نفسها في خضمه القاسي فجأة، لعلها لم ترثهم لأنها كانت حزينة جدا وكبيرة جدا ومكتفية بما حققته في تضاعيف زمنها الماضي فلم تكن بحاجة لإثبات شعرية أو إشهار موهبة أو توكيد مكانة!
المهم أنها رحلت عن عالم الأحياء العام 24 للهجرة (646م)، وبقي لنا منها ذلك النغم الشعري المحتفي بالحزن والمسور بطوفان الدموع في ديوان كبير احتفى بها النقاد القدامى والمحدثون, وترجم إلى أكثر من لغة, ونظر إليه باعتباره وثيقة شعرية ونفسية على زمن امرأة تفردت في ذلك الزمن عبر القصيد وما وراؤه.
سعدية مفرح