حدثتْ هذه الروايةُ في عددٍ من مدنِ ولايةِ نيوجيرسي الأمريكيةِ وخاصَّةً في مقاطعةِ هدسون من الولايةِ.
قد تكونُ هذه الروايةُ غريبةً وغير مسبوقةٍ عربياً، المدن والأماكنُ موجودةٌ وحقيقيةٌ تمامًا، الأحداثُ والأسماءُ والعاداتُ والتقاليدُ أمريكيةٌ.
الروايةُ خياليَّةٌ جُملةً وتفصيلاً، ويمكن أنْ تندرجَ تحت الخيالِ العلمي؛ فهي اجتماعية بوليسية ورومانسية أيضًا.
لمحة
كان يرتعد خائفا كعصفور بين يدي هرة جائعة، عندما ألقي القبض عليه في حديقة صغيرة وسط المدينة، كان يعتقد أن ثمة أشراراً احتلوا قريته الصغيرة التي تركها قبل شهور، عندما ذهب في رحلة طويلة للعمل مع المزارع ذي الحصان الأسود برفقة تسعة عشر رجلا من أصدقائه ثم اختفى بصورة غريبة وعندما عاد إليها وحيداً لم يجد أثراً لقريته لم يجد أحداً من أصدقائه ولم يجد أحدا من أفراد عائلته.
وجد مدينة كبيرة خيالية تجوبها السيارات وفي أجوائها تحوم الطائرات، في حين اختفت الخيول والعربات التي كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل.
ما اسمك؟ سأله المحقق.
جو مارتن ويلسون
عمرُك؟ -سأله المحقق-.
لم يُجب الرجلُ، وبقيَ صامتًا.
ألم تسمعْ السؤالَ؟ كم عمرُك؟
نظر الرجل للمحقق نظرةً عدائيَّةً مشوبةً بالخوف والحذر.--
خمسةٌ وأربعون عاماً.
لا يبدو عليك ذلك، لماذا تكذب؟
إنها الحقيقةُ يا سيدي، وُلِدْتُ عام 1815.
-نظر الرجل إلى التقويمِ الذي أمامه على المكتبِ وعندما قرأه 15/6/1985م انتابه شعورٌ بالدهشةِ المشوبةِ بالضيقِ، واعتقد أنَّ الرجل الذي أمامه مجنونٌ، أو ربَّما يكون صيداً ثميناً.
من أين أنتَ؟ أين مكانُ إقامتك الحالي؟
احتار الرجلُ لا يعرفُ بماذا يجيب؛ فقريتُه التي غادرها قبل شهورٍ قليلةٍ - كما يعتقدُ- لم يعدْ لها وجودٌ......
مدينة جيرسي 1985
كان السيد روبرت، كعادته كلَّ صباحٍ وفي تمام الساعة السابعةِ يفتح أبواب مقهاه الذي يُشرِفُ على الشارع الرئيسي -شارع فرانكلين- في وسط المدينة، كان المقهى في الدور الأرضي من بنايةٍ مؤلَّفةٍ من خمسةَ عشرَ طابقًا، والمقهى يرتفعُ عن الشارع ما يقاربُ المتر أو يزيد قليلاً، أمامه صالةٌ مكشوفةٌ، فيها أربعُ طاولاتٍ، يحيطُ بكلِّ طاولةٍ أربعةُ كراسٍ من المعدن مُنجَّدةٍ بالقماش المخملي أرجواني اللون، وتتزين الطاولاتُ بقماشٍ أبيض، يُطوِّقُ الصالة الأماميةَ قضبانٌ من الحديد الأسود المُزركش برسوماتٍ جميلةٍ تُوحي بالأبَّهةِ والرقي، والصالةُ تتصلُ بالشارعِ بستِّ درجاتٍ من الرخامِ الإيطالي الأسود (البازلت) فيما يغلق الصالة بابٌ من الحديدِ ذاته.
أمَّا المقهى من الداخل فهو عبارةٌ عن صالةٍ واسعةٍ، تناثرَ فيها عددٌ كبيرٌ من الطاولات بنظامٍ يُوحي بالخصوصيةِ العائلية، والصالةُ الداخليةُ مُكيَّفةٌ بنظامٍ حديثٍ يعمل تلقائياً بحيث يُشعرُك بجوٍّ من الرطوبةِ المحببةِ صيفاً والدفءِ المشوبِ برائحةِ المشروباتِ والدخانِ المنبعث من سجائر الروَّاد وأنفاسهم، إضافةً إلى الصخب الذي يتردَّدُ دائماً فيخفت تارةً ويتصاعدُ أخرى.
كان يؤمُّ الصالةَ الداخليَّةَ ما هبَّ ودبَّ من الرجال والنساءِ، الهاربين من المشاكلِ الزوجيَّةِ وضنك العمل، فيما يؤمُّ الصالةَ الخارجيَّةَ الشبابُ.
بعدما أوقفَ مستر روبرت سيارتَهُ -من نوع (فورد) موديل 80 - السوداء في مكانِها المعتاد بناصيةِ الشارع ألقى نظرةً خاطفةً نحو مدخل المقهى، أحسَّ بقشعريرةٍ تسري في جسده؛ شاهد كيساً أسود كبيراً مُمَدَّداً أمام المقهى.
تَسَمَّرَ السيد روبرت مكانه كأنَّه صنمٌ، ولم يأتِ بأيِّ حركةٍ لبعض الوقت، تذكَّرَ أنَّه شاهد ما يُشبه ذلك الكيس في الأخبار كثيراً- إنَّه كيسُ حفظ الجُثَثِ والأموات بلا شك- تمتمَ روبرت، واعتقدَ أنَّ أحدهم قتل شخصاً ما، ووضعه في كيس، وألقاهُ أمام المقهى ليُوقع بهِ، لكنْ ليس لي أعداءٌ إطلاقًا- قال روبرت، لا بُدَّ من الاتصالِ بالشرطة.-
السيد روبرت رجلٌ ذو قامةٍ قصيرةٍ بعض الشيء مكتنزُ الجسمِ، حليقُ الذقن والشارب، طويلُ السالفين، أصلعُ الرأس، وجهُه مستديرٌ ناعم يُشبه وجهَ امرأةٍ، ذو أنفٍ أفطسَ دقيقٍ، بعينين صغيرتين خائفتين.
بدا عليه الرعبُ، ولم يتمالكْ نفسَه ليخرجَ من السيارةِ؛ ليُلقي نظرةً على ذلك الكيس، على الفور أخرجَ هاتفه النقَّالَ واتَّصلَ بالشرطة.
خمسُ دقائقَ مرَّتْ ثقيلةً وطويلةً ومستر روبرت يحبسُ نفسَه بالسيارةِ، وهو يراقب ذلك الكيس ريثما حضرتْ الشرطةُ، خرج من السيارةِ ووقف بجانبها واجماً، لم يتقدَّمْ قيدَ أُنملةٍ للحظاتٍ، وأصبحتْ باحةُ الشارع أمام المقهى تعجُّ بالشرطةِ والأطبَّاءِ الشرعيين وخبراء رفع البصماتِ والتقاط الدلائل والمصورين، وتمَّ إغلاقُ الشارع، طلبتْ الشرطةُ من السيد روبرت فتحَ باب المقهى، تقدَّمَ النقيبُ جاك وانهالَ عليه بالأسئلةِ.
المحقق: متى أغلقتَ المقهى ليلةَ أمس؟
روبرت: حوالي الواحدة بعد مُنتصفِ الليل.
المحقق: هل رأيتَ شيئاً مشبوهاً أو غير طبيعيٍّ في المقهى أو خارجه كشجار بين الزبائن مثلاً أو غيرَ ذلك؟
روبرت: لا سيدي، كلُّ شيءٍ كان طبيعيًّا.
المحقق: متى وصلتَ صباحاً إلى هنا؟
روبرت: السابعة تماماً كالعادة.
المحقق: ماذا شاهدتَ عندما وصلتَ إلى هنا؟
هل كان هناك أشخاصٌ أو سياراتٌ تقفُ بالشارع؟
روبرت: كلا يا سيدي، عندما أوقفتُ السيارة التفتْتُ إلى باب المقهى؛ فشاهدت كيساً أسودَ مُمدّداً أمام المقهى، اتَّصلتُ بكم على الفور؛ لأنَّه وقع الرعبُ في قلبي وتصلَّبتْ قدماي، ولم أستطعْ الخروجَ من السيارةِ.
المحقق: حسناً، سيتمُّ إغلاقُ المقهى لبعضِ الوقتِ.
روبرت: كم من الوقت سيُغلقُ يا سيدي؟ إنَّه مصدرُ رزقي الوحيدُ.
المحقق: لا تخفْ، لن يطولَ الأمرُ.
روبرت: أتودُّ تناوُلَ كأسٍ من الويسكي؟
المحقق: لا، شكراً لك، أنا لا أشربُها.
روبرت: على حسابي يا سيدي.
المحقق: لا أشربُها البتَّةَ.
روبرت: إنَّها لذيذةٌ ومنعشةٌ في الصباح سيدي.
المحقق: إنَّها تجعلُ منك حيواناً.
روبرت: عفواً سيدي!
المحقق: الفرقُ بين الإنسان والحيوانِ هو العقلُ، وإذا شربتُ الخمرةَ فإنَّها تُذهبُ عقلي وأصبحُ كالحيوان تماماً بلا عقلٍ؛ لذا أنا لا أشربُها أبداً؛ لقد شاهدتُ زملائي عندما يثملون في حالةٍ مزريةٍ جدّاً.
روبرت: كما تُريدُ يا سيدي.
المحقق: عليك المغادرةَ، سنُخلي سبيلَك بضمانِ عنوانك، أين تسكُنُ سيد روبرت؟
روبرت: تفضَّلْ سيدي، هذه كلُّ المعلوماتِ عني. -وأعطاه بطاقة تعريفٍ خاصَّةً به.-
كانتْ الشرطةُ تقومُ بعملها؛ إذ يقوم شرطيٌّ بفحص الكيس بجهازٍ أشبه بمصباح يدويٍّ كبيرٍ، فيما كانتْ الكلاب البوليسيَّةُ تشمُّ هنا وهناك حول مكان الكيس الأسود، فتح الشرطيُّ الكيسَ بحذرٍ شديدٍ، تفاجأتْ الشرطة عندما شاهدتْ الجثَّةَ، كان رجلا متوسط العمر كأنَّهُ نائمٌ بجسده العاري تماماً بلونٍ شاحبٍ، وفي بطنِه جرحٌ تماثلَ للشفاء، لا توجدُ آثارٌ للدماء أو الجروحِ أو القتلِ أو حتَّى رائحةُ الموتِ، كانتْ تنبعثُ من الجثةِ رائحةُ الزعفران أو ما شابهَ ذلك.
تمَّ التقاطُ الصورِ وجمعُ الدلائلِ، ونُقلتْ الجثةُ للتشريح.
لم يتعرَّفْ أحدٌ إلى الجثة، ولم يسألْ عنها أحدٌ أيضاً، وتبيَّنَ بالتشريح أن الجثةَ محنطةٌ بحنوطٍ غريبٍ لا يُوجدُ مثلُه في البلاد، احتفظَ الحنوط بالجثةِ سليمةً؛ ما جعل الجثَّةَ تبدو كأنَّها لرجلٍ نائمٍ وبشرتُهُ طريٌّة، وملمسُها ناعمٌ، رائحتُها غير نتنةٍ أشبه ما تكون برائحةِ الزعفران، أكَّدَ الطبيبُ الشرعيُّ بأنَّ صاحبَها أُجريتْ له عِدَّةُ عملياتٍ جراحيةٍ في القلبِ والعيون، وأنَّ ثَمَّةَ شكًّا كبيرًا في تاريخ الوفاة، لكنْ من المؤكَّدِ أنَّ الرجلَ ماتَ منذُ مُدَّةٍ طويلةٍ.
طلب النقيبُ جاك من المشفى الاحتفاظ بالجثةِ حتى انتهاء التحقيق ومعرفةِ صاحبها أو أقاربِه.
رواية جميلة حقا ، وقد كان لي شرف الحصول عليها وقراءتها
ومن الرائع أخي الفاضل رياض أن توجزها هنا في حلقات ،
ليتم الاضطلاع عليها ، والاستفادة منها جيداً .
بوركت وجزاك الله خيراً
تحياتي
رواية جميلة حقا ، وقد كان لي شرف الحصول عليها وقراءتها
ومن الرائع أخي الفاضل رياض أن توجزها هنا في حلقات ،
ليتم الاضطلاع عليها ، والاستفادة منها جيداً .
بوركت وجزاك الله خيراً
تحياتي
شاكرا لكم مروركم الكريم
حبذا لو تعطي رأيكم هنا
تقديري واحترامي
بعد أيامٍ ثلاثةٍ وفي الصباح كان ثلاثةُ شبابٍ يجلسون أمام المقهى على الطاولةِ رقم - 1- التي تُوجدُ في الركن الأيمن للمدخل في الصالةِ الخارجيةِ للمقهى والمحاصرةَ بشبكٍ من الحديد؛ إذ لا يُوجدُ طريقٌ لها إلَّا من البابِ الرئيس، بدأتْ الحياة تدبُّ في الشارع بشكلٍ غريبٍ، كان الشبابُ يجلسون على تلك الطاولةَ، يحتسون البيرةَ ويتحدَّثون في مرحٍ وسرورٍ، ويُراقبون المارَّةَ والسياراتِ التي بدتْ كسيلٍ مُتدفِّقٍ، يتبادلون أطرافَ الحديثِ، وكلٌّ منهم يروي مُغامراتِه الصبيانيَّةَ مع صديقته أو حبيبته، وهم في سعادةٍ لا مُتناهيةٍ.
في غمرةِ تلك السعادة حدَثَ أمرٌ مروِّعٌ؛ تقافزَ الشبابُ عن الكراسي، وأحدثتْ الطاولةُ التي قُلبتْ أرضاً ضجَّةً كبيرةً؛ إذ تَدَافَعَ كلٌّ منهم مُحاولاً الهربَ مُحدِثينَ صخباً كبيراً؛ فوقعتْ الزجاجاتُ والأكوابُ، وسُكبتْ البيرةُ على الأرضِ، وهربَ مَنْ يجلسُ على الطاولات المُجاورةِ، وأطلَّ رُوَّادُ المقهى من الداخل لاستطلاعِ الأمر وسط فوضى عارمة، فشاهدوا رجلاً يرتدي ملابسَ رُعاةِ البَقَرِ يقفُ بجانبهم كأنَّه نزلَ من السماء.
ظهرَ على الرجلِ الاستغرابُ والدهشةُ بوجهٍ فزعٍ يكتنفُه الخوفُ والغضبُ أيضاً، ولم ينبسْ ببنتِ شفةٍ للحظاتٍ حتَّى هدأ الجميعُ وما زالوا في ذهولٍ محمومٍ.
وقف الشبابُ والآخرونَ بشكلٍ حذرٍ ينظرون للرجل الوجلِ، عندها تساءلَ الشبابُ:
من أينَ جاء هذا الرجلُ يا ترى؟
هل سقطَ من السماءِ حقاًّ كما رأيناه؟
هل خرجَ من الأرض؟
أم أنَّ هناك الكاميرا الخفيَّةَ تتلاعبُ بنا؟
كان الرجلُ ينظر يميناً وشمالاً ويُحدِّقُ بمَنْ حوله، ثم رمى الشبابَ بنظرةٍ مُتفحِّصةٍ وقال لهم بعد أنْ صكَّ أسنانَه وضغطَ بقوَّةٍ على رأسِهِ بيديه:
لو سمحتُم يا سادةُ، ما اسمُ هذه البلدة؟
قال أحدُهم والخوفُ يسيطرُ عليه: اسمُها جيرسي يا سيدي.
تجهَّمَ وجهُ الرجلِ وازدادَ امتعاضاً وقلقاً، وأخذ يحدِّثُ نفسه، فيما كان الشبابُ على حالِهم من الخوفِ والدهشةِ، قال مُتمتماً: جيرسي! ليس هذا اسمُها! رُبَّما حدث أمرٌ ما! لكنْ أينَ الناسُ الذين أعرفُهم؟ ماذا حصل للبلدةِ في غيابي؟ مَنْ هؤلاء الفتيةُ الغريبون بمظهرهم كأنَّهم فتياتُ مَلهًى ليلي؟
كان الرجلُ يجولُ بعينيه مُتفحِّصاً كلَّ ما حوله، ثمَّ خرجَ تاركًا البقيَّةَ في دُوَّامةٍ، وهو فريسةُ الألمِ والحيرةِ الشديدةِ مُتخوِّفاً من أنْ يتعرَّفَ عليه أحدٌ من الناسِ.
توجَّهَ صوبَ المَزارع خارجَ البلدة لعلّه يتعرَّفُ عليها، أو يقابلُ هناك أحداً يعرفُه؛ فيشرح له حقيقةَ الأمرِ، وعندما اقتربَ من مزرعةٍ يعرفُها تماماً شبراً بشبرٍ جلسَ على الأرضِ، أخذَ يتلمَّسُ الترابَ ويُقبِّلُه ويتمتمُ مُجهشاً بالبكاء والحنين وقد نفدَ صبرُه.
أعاد الرجل نظرَهُ صوبَ البلدة الكبيرةِ وقرَّرَ العودةَ إليها؛ ليستقصيَ الحقيقةَ بعدما تعرَّف إلى مزرعَتِهِ التي طالمَا عملَ فيها مع زوجته وابنته مُحاولاً العثورَ على عائلته بكلِّ ما أُوتيَ من قوَّةٍ، وعاد أدراجَه إلى البلدةِ، كان الهدوءُ قد عاد للمقهى، وجلسَ كلٌّ إلى طاولته كأنَّ شيئاً لم يكنْ.
عندما شاهد الشباب الرجل ثانيةً خارجَ المقهى مُتوجِّها نحوهم ساد السكونُ المطبِقُ على المكانِ من جديدٍ، لكنَّ ابتسامةَ الرجلِ التي قابلهم بها هدَّأَتْ من روعِهم قليلاً، فبادرَهم بالسؤالِ:
أيُّها السادةُ، أهذهِ حقّاً بلدةُ جيرسي؟
أجابَ أحدُهم: نعم إنَّها بلدةُ جيرسي أيُّها السيدُ.
الرجلُ: ألَا توجدُ بلدةُ أُخرَى بالجوارِ- بلدةٌ صغيرةٌ- تُدعَى نيوفلج؟
أجابَ آخرُ: لا سيدي، لكنْ أعتقدُ أنَّ اسمَها سابقًا كان نيوفلج.
الرجل: مَنْ أنتُم؟
متى جئتُم إلى هذه البلدة؟
سأل الرجلُ، وراح يستقرئُ ما في عيونهم، لقد تملَّكَ الشبابَ شعورٌ بالغضب المشوبِ بالخوف والحذرِ، واستقبلوا الأسئلةَ بكثيرٍ من الاستهجان، لكنَّ أحدَهم أجابَ بسخريةٍ:
سؤالك غريبٌ يا سيدي! نحنُ من هذه البلدة، وُلِدْنا هنا، وكذلك آباؤنا وأجدادُنا، ثُمَّ تابعَ قائلاً:
هل نستطيعُ مساعدتَك يا سيدي؟
الرجلُ: لا، شكراً لكم.
لقد باغتته إجابةُ الشابِّ المُهينةُ، ووقعتْ عليه وقْعَ الصاعقةِ، فقال في نفسِه:
إنَّ من العبثِ التحدُّثَ إليهم، وشعرَ بانقباضٍ مُؤلمٍ في عنقِه، وكان العرق يتصبَّبُ من صِدغيه، ابتعدَ عن المقهى وهو حاقدٌ مُتجهِّمُ الوجه، وأخذ يتجوَّلُ في شوارعِ البلدةِ، كَدُبٍّ هاربٍ من السيرك، يبحثُ عن مكانٍ آمنٍ؛ ليأخذ قِسطاً من الراحةِ، ويستجمعَ أفكارَه، ويعاودَ نشاطَه الذهنيّ بعد أنْ أصبحَ كسيرَ القلب، وكأنَّ قَدَراً مأساوياً غاشماً عصفَ بكلِّ أحلامِهِ وآمالهِ بعدما كان يتوقَّعُ أن يجدَ بيته وأُسرتَه في انتظارِه بعد غيابٍ طويلٍ عنهم.
أعياهُ التعبُ وهو يحومُ في شوارع البلدةِ إلى أن وصلَ إلى حديقةٍ صغيرةٍ بوسط البلدة، يحتضنها سورٌ فقفز خلفه، وجلس تحت شجرةٍ وارفة الظلال، في وقت تربَّعت فيه الشمسُ في كبد السماء، كأن حلماً مُخيفاً انتابه، فأخذ يُتمتمُ بصوتٍ مسموعٍ كمن يُحدِّثُ نفسه:
هذا مستحيلٌ! لا يمكنُ أن أصدِّقَ ما يحدث! لقد تغيَّرتْ البلدةُ كثيراً، اختفى الناس الذين أعرفُهم، والمباني التي بنيتُها بنفسي، والخيولُ التي كانتْ تنتشرُ في كلِّ مكانٍ في البلدةِ، لقد تغيَّبْتُ شهوراً قليلةً فقط، ماذا حلَّ بالناس؟ أينَ العمدةُ نورمان والآخرون؟
أين زوجتي وأبنائي؟
أين الجميعُ بحقِّ السماء؟
إنه حُلْمٌ مُرعبٌ مُخيفٌ -وأخذ يبكي بمرارةٍ-.
فيما كان الرجلُ يهذي ويبكي ويتعجَّبُ ممَّا حصلَ للبلدة من أمورٍ لا تُصَدَّقُ بين عشيَّةٍ وضُحاها -كما يعتقدُ- إلَّا أنَّه متأكِّدٌ أنَّ هذه بلدتُهُ بدليلِ الأراضي الزراعيَّةِ التي يعرفُها جيِّداً، ظنَّ أنَّ الحربَ التي كانتْ دائرةً رحاها -عندما غادرَ البلدةَ- في البلاد قد وصلتْ إلى بلدته، وأنَّ أُناساً احتلوها وعاثوا فيها فساداً، فقتلوا سُكَّانها، ودمروا بنيانَها، وأعادوا بناءَها بسرعةٍ.
تملَّكَهُ الغضبُ، واضطربتْ أفكارُه بعد أنْ آيسَ من العثورِ على عائلته وبيته في وسطَ هذا الزحام الهائلِ من البنايات والبشرِ، ما زال خيالُه يحومُ هناك حول منزلِهِ المتواضعِ الذي تماثلَ أمام عينيه كحُلْمٍ مارس تأثيرَه المتواصلَ على ذهنِه.
ها هو قصرُ العمدةِ نورمان بحديقته الغنَّاءِ البهيَّةِ، ها هي ليزا بقوامِها الممشوقِ تحومُ في فِناء المنزلِ تنظِّفُ وترتِّبُ، والطفلان حولها يلعبان، بسمةُ الواحدِ منهما تملأُ القلبَ بالسرور...
كأنَّه لم يشاهدْ ابنته سارة ذات الأربعةَ عشر ربيعاً في المنزل، فخبا سرورُه قليلاً إلى أن تذكَّر أنَّ ابنته في تلك اللحظاتِ تكونُ في المزرعة، تقطفُ الثمارَ؛ لتبيعَها وتُنفقَ على الأسرةَ في غيابه، فابتسمَ وهو يرى خيالَها بين النباتات ويديها الناعمتين قد كساهما الترابُ كما الحناءُ، وهي تعملُ كالرجالِ في غيابِه... لكنَّ الصورةَ تتلاشى لتعودَ البناياتُ الشاهقةُ من جديدٍ أمام ناظريه؛ فتمتلئُ عيناه بالدموع.
3
كانت الصحفيَّةُ سوزي تعملُ محرِّرةً لصفحةِ الحوادث في الجريدة اليوميَّةِ في البلدة بعد أن تخرَّجتْ في كلية الإعلام، اعتادتْ بعد ظهرِ كلِّ يومٍ زيارة مقرِّ الشرطة للاطِّلاعِ على ما يستجدُّ من حوادثَ في البلدة؛ لتعودَ بها إلى الجريدة، وتنشرَها في العددِ القادمِ.
كانتْ سوزي معروفةً في البلدة لدى الجميع، كانتْ على عَلاقةٍ قويَّةٍ مع قائد المخفرِ وأفراد الشرطةِ، وكثيراً ما تجدُها في موقعِ الحادثة فورَ وقوعِها، فتلتقطُ الصورَ وتجمعُ المعلوماتِ من كلِّ مَنْ له عَلاقةٌ بتلك الحادثة؛ وهذا ما أكسبَها شهرةً كبيرةً.
كانتْ تجلسُ في مقرِّ الشرطة ككلِّ يومٍ في الميعاد نفسه، الصحفيةُ سوزي بشعرِها المائل للحمرة وقَصَّتِهِ الفرنسية التي تُضيفُ هالةً تحيطُ بوجهها الدافئ، بعينيها اللامعتين بلون الزيتون الأخضر، بقامتها الطويلةِ، ترتدي بنطالَ الجينزِ الأزرقَ السماويّ والسترةَ ذات اللون الهادئ الذي يعكسُ لونَ عينيها، تحضرُ كلَّ يومٍ لتسجِّلَ الأحداثَ التي تجري يومياً؛ لتنشرَها في الجريدةِ التي تعملُ فيها.
عند ظهرِ ذلك اليوم كانتْ سوزي هناك، تجلسُ مع النقيب جاك، عندما حضر شابان على عجَلٍ بادٍ عليهما الفزعُ، وبلّغا عن رجلٍ غريبٍ ظهر بشكلٍ غريب، ويتصرف كتائهٍ أو مجنون، ويسألُ أسئلةً غريبةً، ويتجول في الشوارع بلا هدفٍ، يرتدي ملابسَ غريبةً وباليةً، أكَّدَ الشابان أنَّ صديقاً لهما يتبعُ الرجلَ ليُراقبَهُ، ويبلِّغَ عن مكانِه حتى تحضرَ الشرطةُ.
رنَّ هاتف الجوال مع أحد الشابّين، وتلقَّى مكالمةً من صديقه الذي يتبعُ الرجلَ وأخبرَه أنَّه يجلسُ الآن تحتَ شجرةٍ بوسط الحديقة، على الفورِ غادرتْ سياراتُ الشرطةِ مُتوجِّهةً نحوَ الحديقةِ وهي تُطلقُ صفاراتِها، وتنيرُ الشارعَ بأنوارِها، وتفرَّقتْ ملتفَّةً حولَ الحديقةِ من كلِّ جانبٍ.
4
عاد الرجلُ إلى حالةِ صمتٍ رهيبٍ خيَّمتْ عليه، كانتْ الأفكارُ تضطربُ بعقله ووجدانه، بعد أنْ آل إلى هذه الحالِ جلسَ تحت الشجرةِ؛ ليأخذَ استراحةً قصيرةً قبل أن يُعاودَ البحث عن أسرته بعد أن تذكَّر زوال بيته القابع بجانبِ قصرِ العمدةِ -الذي اختفى أيضاً- ولم يبقَ إلَّا أطلالٌ منهما..
كان الرجل مُشوَّشاً لدرجة أنَّه لم يكن قادراً على التفكير في شيءٍ، وساد الهدوءُ حوله بالرغمِ من أنَّ ضجيجَ السيَّاراتِ التي تعبرُ الشارع يصمُّ الآذانَ، إلا أنَّ الرجل بدا في سكونٍ مُطبقٍ، اقتحمَ النقيبُ جاك ورجالُه الحديقة مُلوِّحين بمسدساتِهم بعد أنْ انتشروا حوله، أصابه الوجومُ والخوفُ، حاول النهوضَ والهربَ، ولكنه أدرك أنَّه لا جدوى من ذلكَ؛ فآثر الصمودَ والمواجهةَ.
في تلك اللحظةِ غادرتْ سوزي مقرَّ الشرطةِ مع الشابين، وتوجهت أيضاً نحو الحديقةِ، وأخذتْ تُراقبُ ما يجري، وتُسجِّلُ في دفترِها الملاحظاتِ وتلتقطُ الصورُ.
قال النقيبُ جاك بعد أنْ تقدَّم إلى الأمام عبر مُكبِّر الصوتِ: المكانُ مُحاصرٌ، سلِّمْ نفسك، ضع يديك خلفَ رأسِك، لا تتحركْ وإلا سأطلقُ النارَ عليك.
قام الرجلُ وقد تملَّكه الرعبُ من هوْلِ ما رأى ومن كثرةِ رجال الشرطةِ وسياراتهم وأنوارها المتلألئة فوق سقوفها حتى ظنَّ الناسُ أنَّ هناك سطواً مُسلَّحاً أو فيلماً سينمائيّاً يصوَّرُ خاصةً عندما شاهدوا زيَّ المُتَّهمِ الغريبَ.
شاهد الرجلُ كمًّا هائلاً من الناس يُحيطون بالمكان من بُعد، وازدحمتْ السيارات وتعطَّلتْ حركةُ السير، وتجمَّعَ الصحفيون حتى بلغ منه الرعبُ مبلغه، خارتْ قُواه وأيقن بالهلاك، شعر أنَّ نهايته قد اقتربتْ، صلَّى صلاةً سريعةً: "مَنْ آمَنَ بي وإنْ ماتَ فَسَيَحْيَا".
وقف الرجل رافعاً يديه خلف رأسه مفرجاً ما بين قدميه، تقدَّمَ نحوه عددٌ من رجالِ الشرطةِ مُصوِّبين مسدساتِهم نحوه وأحاطو به، قام أحدُهم بتفتيشِه تفتيشاً دقيقاً ثم كبَّلوه بالقيودِ، لم يُعثرْ معه على شيءٍ، فقادوه إلى السيارةِ التي تنتظرُه ثم توجَّهوا به إلى مقرِّ الشرطةِ لاستجوابه.
بقيتْ سوزي تلتقطُ الصورَ إلى أن تمَّ إلقاءُ القبضِ عليهِ، فعادتْ أدراجها إلى مقرِّ الشرطةِ؛ لتتابعَ ما سيحدُثُ، أخذتْ سوزي موعداً مع الشابين في المقهى، بعد الانتهاءِ من التحقيقِ.
كان الرجلُ خائفاً مُتعباً وهو مُحاطٌ برجالِ الشرطةِ الذين لم يسبقْ له أنْ تشرَّفَ بلقائهم من قبلُ؛ فانهارَ مَغشيّاً عليه وهو يهذي: أريدُ أرضي.... أريدُ زوجتي....
نُقلَ الرجلُ إلى المستشفى، وأُعطي العلاجَ اللازمَ، ثمَّ طلبَ الطبيبُ من الشرطة ترْكَ الرجلِ حتى يستريحَ،... وضعتْ الشرطةُ حارساً عليه، وقُدِّمَ للرجل الطعامُ والماءُ والدواءُ.
كان لدى المحقِّق حَدَسٌ أن ثَمَّةَ ما يربط بين الجثةِ والمُتَّهم بالرغم من تقريرِ الطبيبِ الشرعيّ أنَّ الموتَ كان طبيعياً.
طلبتْ سوزي من الشبابِ أن يَرْووا، لها ما حدثَ معهم ومع الرجلِ عندما ظهرَ عليهم فجأةً، وعندما شاهدتْ سوزي الشبابَ يجلسون أمام المقهى ومن خلفِهم سياجٌ حديديٌّ كبيرٌ ولاحظتْ عُلوّ البنايةِ وعرفتْ أنَّ الرجل ظهرَ خلف الشبابِ من جهة الحاجزِ أصابَها الوجومُ كما أصابَ الشبابَ أوَّلَ مَرَّةٍ....
كان لدى سوزي اعتقادٌ أنَّ هذا الرجل ليس طبيعيّاً، وربَّما ليس من البشر وأنَّه يحملُ أسراراً غامضة.
أخذتْ سوزي المعلوماتِ الكاملةَ من الشباب وسجَّلتْ الوقتَ الذي ظهر فيه بدقَّةٍ.
5
أُحضِرَ الرجلُ من المشفى للتحقيق معه بعد أنْ استعادَ بعضَ وعيه، المتهمُ يجلسُ على كرسيِّ الاعترافِ في غرفةِ التحقيق، ويقابله اثنان خلف طاولةٍ مُستطيلةٍ من الخشب الأبيض، وحولها أربعةُ كراسٍ من الكروم المُنَجَّد بالقماش المخمليِّ، في الغرفةِ فتحةٌ أشبه بشباك له زجاج مُعتمٌ، بحيث لا يرى مَن بالداخل مَن هو خارجَ النافذةِ، وكان المتهم كالغريق.
المتهم يتنكَّر بزيِّ رُعاة البقر؛ يعتمر قبعةً سوداء ذات حوافّ مَطويّة على محيطها، ويلبسُ حذاءً قديماً بالياً من موديلات القرن الثامن عشر، كان الشابُّ وسيماً أشقر الشعر، بعينين زرقاوين لامعتين عامرتين بالذكاء، بوجهٍ ناعمٍ أشبه بعذراء، طويل القامةِ، فمُه صغيرٌ بين شفاهٍ رقيقة، وله وجهٌ قارب على نضوج الشباب، لكنَّه كان شاحبَ الوجه كأنَّه مُخَدَّرٌ أو ثملٌ.
أراد المُحقق- النقيب- أن يستجوبَ الرجل بأسلوبٍ رقيقٍ ولطيفٍ لعلَّه يصدُقُ في إجاباته.
النقيبُ: اسمُك كاملاً؟ وعمرُك؟ ومهنتُك؟
المتهم: اسمي جو مارتن ويلسون، عمري 45 عاماً، من مواليد عام 1815، عملي مزارعٌ صغيرٌ في بلدةِ نيوفلج.
المحقق مشدوهٌ من إجابة الرجل على سؤاله عن عمرِه وتاريخ ميلاده، وهو يُحَدِّقُ في الرُّزْنامةِ الموجودة أمامه بتاريخ 15/6/1985م، وما زال الرجلُ مُتردِّداً في الإجابة عن سؤالِ المحققِ أينَ يسكنُ وما هو عنوانُه.....
النقيب: نحنُ في عام 1985م سيد جو! ماذا دهاك يا رجل؟ لعلك وُلِدْتَ عام 1950م هذا معقولٌ، أو لعلك فقدْتَ عقلك عام 1985م، هذا معقولٌ أكثر، ثم لا يوجد في البلاد كلها بلدةٌ تُدعى نيوفلج!
النقيب: لماذا أنت مُتنكِّرٌ بهذا الزي البالي القديم؟
المتهم: لا أملكُ غيره سيدي، وهذا ما تعودت عليه.
النقيب: كيف ظهرْتَ فجأةً أمام المقهى بصورةٍ مُريبة؟
المتهم: لست أدري، طلبت من أصدقائي في كوكب سيراتا الذين خطفوني قبل شهور وسجنوني في المَشفى الكبير ومنعوني من العودة أن يُعيدوني إلى ساحة البلديَّة في نيوفلج لا إلى هذا المكانِ الغريبِ.
كان النقيب جاك يذرعُ أرضَ الغرفةِ ذَهاباً وإياباً، بينما أحد الشرطة يدوِّن ما يقوله المتهم، والآخر يحملقُ في المتهم وهو يعتقدُ بأنَّ المتهم مجنونٌ لا محالةَ.
النقيبُ: أيُّ بلدةٍ تقصدُ بنيوفلج؟
المتهم: إنَّها بلدتي سيدي، وهي بلدةٌ صغيرةٌ حديثةُ عهدٍ بالبناء، وبيوتُها متواضعةٌ من الأخشاب.
ضحكَ النقيبُ بملءِ فِيهِ بصوتٍ عالٍ، وشاركه أحدُ مُساعديه باستهزاء، وقال النقيبُ في نفسِه: رجلٌ مجنونٌ!
لكنَّه آثر ألَّا يُصرحَ للمتهم بذلك لاستكمالِ التحقيق واستدراجِه لقولِ الحقيقةِ.
قال أحدُ مُساعدي النقيب: نعم يا سيدي، المتهمُ صادقٌ؛ قرأتُ عن تاريخ هذه البلدة، وكانتْ تُدعى نيوفلج ثم نيو ستي قبل أن يُصبحَ اسمها جيرسي.
المحقق: معلوماتٌ قيمةٌ، شكرًا لك للتوضيحِ.
ثُمَّ التفتَ للمتهم وقال له: يبدو أنَّك متعبٌ؛ سنأخذُ استراحةً قصيرةً لشرب الشاي.
تذكَّرَ الرجلُ ذلكَ الشقيَّ ستيف الذي داومَ على معاكسة ابنته سارة والتحرشِ بها فازدادَ حنقه وغضبُه، لكنَّه تناسى ذلك بعد أنْ طغى حبُّ الوطن على مشاعرِه، فشعرَ بالحقدِ على هؤلاء الرجال، الذين احتلوا أرضه وبلدته، بينما الرجل يُراجعُ ذاكرته غارقاً في أفكاره، يستذكرُ ما حصلَ له صباحَ ذلك اليوم وهو يحتسي فنجانَ الشاي الذي قدَّمَه له النقيبُ جاك، سمعَ صوتَ النقيبِ من جديدٍ يُعاودُ استجوابَه.
النقيبُ: أرجو أنْ تكونَ بوضعٍ أفضلَ الآن، وتُجيبُ عن أسئلتي بصدقٍ وبلا مُراوغةٍ سيد جو مارتن.
المتهم: نعم سيدي، لكنْ لا أعرفُ لماذا أنا هنا؟
ماذا حصلَ مني لتقبضوا عليَّ؟ أنا لم أسرقْ، لم أشتمْ أحداً، ولم أقتلْ، ما ذنبي بحقِّ السماء؟
المحقق: حسنًا، قرَّبتنا من الهدف سيد جو، لقد ذكرتَ شيئاً نبحثُ عنه منذُ أيامٍ، وجدْنا جُثَّةَ رجلٍ في المكانِ نفسِه الذي ظهرتَ فيه دون سابق إنذار وبصورةٍ شيطانية، فمن المعلومِ أنَّ القاتلَ يعودُ إلى مكانِ الجريمة يتشمَّمُ الأخبارَ، أريدُ تفسيراً لذلك، لماذا قتلتَ الرجلَ وألقيتَه أمامَ المقهى؟
لماذا جئتَ إلى المقهى من جديدٍ؟
ما الذي تبحثُ عنه سيد جو؟
هَلا أخبرتنا!
المتهم: قتيلٌ!... جُثَّة!... عمَّا تتحدث سيدي؟ أنا لا أعرف شيئاً عن الذي تقوله، أُقسم على ذلك سيدي.
النقيب: كلُّ الدلائل تُشير بأنَّك أنتَ القاتلُ؛ ظهورُك المفاجئُ في المكانِ نفسِه، ملابسُك الغريبةُ، عدمُ انتمائك للبلدةِ، أنتَ غريبٌ عنها، تأكَّدْنا أنَّك لستَ مُواطناً أمريكيّاً أيضاً، ما هي هويتُك؟
لحِسابِ مَنْ تعملُ؟
لماذا أنت هنا سيد جو؟
المتهم: مّنْ قال ذلك سيدي؟
أنا مواطنٌ أمريكيٌ، ولدتُ عام 1815م في بلدةِ بايون، ثُمَّ أقمْتُ فترةً في بلدةِ نيوراك، وتزوَّجتُ هناك، ولما حدثَتْ الحرب الأهليةَ بين الشمال والجنوب هربْنا كباقي الناس، والتقينا بعددٍ منهم هنا عندما كانتْ هذه الأرضُ غابةً تعيشُ فيها الحيواناتُ، ونحنُ مَنْ أسَّسَ هذه البلدة، أنا مواطنٌ أمريكيٌ أصيلٌ يا سيدي.
النقيبُ: أنتَ تهذي بلا شكٍّ! -اقتربَ النقيبُ من المتهمِ، أخذَ يشمُّ رائحةَ فمِه ثُمَّ تابعَ-: هلْ أنتَ ثملٌ يا رجل؟
المتهمُ: أنا لا أشربُ يا سيدي، لا أشربُ أبداً، أنا هنا منذُ الأمس، تحتجزُني في ذلك القفصِ الحديديّ اللعين كالحيوانِ ودون سببٍ، أنا بكاملِ قواي العقليةَ سيدي.
النقيبُ: سأطرحُ عليك عدداً من الأسئلة، ما دمتَ تملكُ قُواك العقليَّةَ كما تقولُ، أرجو أنْ تُجيبَ عنها بصراحةٍ من أجلِ مصلحتِك، لم نعثرْ معك على جوازِ سَفَرٍ أو هويَّةٍ أو حتى رُخصةِ قيادة لتثبتَ بها شخصيَّتَك، من أنتَ بحقِّ السماء؟
المتهمُ: جواز سفر! رخصة! أنا لا أفهمُ ما تعني بذلك سيدي، ماذا تريدُ مني بالتحديدِ من فضلك؟
النقيبُ: أيَّ شيءٍ يُثبتُ شخصيتَك، يثبتُ مَنْ أنتَ.
المتهمُ: لا يوجدُ معي شيءٌ من هذا القبيلِ.
النقيب: لا بأس، قل لنا من أين جئت؟ كيف دخلت البلاد دون جواز سفر؟ مَنْ يقفُ خلفك؟
فكَّر المتهم قليلاً وهو أشبه بأرنبٍ يتربص به ثعلب، ثم رفع رأسه والتفت نحو النقيب الذي يبدو عليه أنَّه مخلوقٌ غريبٌ قبيحٌ ومزعجٌ أيضاً، إنَّه ضخمُ الجثةِ قصيرُ القامةِ أصلعُ بشاربين كبيرين، وعيناه صغيرتان حادتان، تابع قائلاً:
أنا من هذه البلدةِ، نعم سيدي، إنَّها بلدتي منذُ أنْ كانتْ غابةً وقبل أن.....
واختلسَ النظرَ نحو النقيبِ الذي يرهبُ جانبه، والذي يبدو عليه أنَّه فقدَ صبرَه، وأصبحَ عصبيَّ المزاجِ، ثُمَّ صمتَ ولم يُكملْ.
قال النقيبُ وقد انحلَّ من عقالِه وبدا عليه الامتعاضُ وكأنَّه يتكلَّمُ من بين أسنانه: أكملْ أيُّها الرجلُ، لماذا توقَّفْتَ؟ أنا أسمعُك جيِّداً.
أطلقَ المتهمُ من الحسرةِ زفراتٍ وتنهداتٍ، كان يخشى أن ينقضَّ عليه النقيبُ بعدما أصبحَ فريسةً سهلةً بين يديه، واقتربَ منه أكثر مِمَّا يجبُ، تابع المتهمُ بصوتٍ مخنوقٍ: قبل أنْ تحتلوها وتقتلوا أهلَها سيدي.
النقيب: يبدو أنَّك مجنونٌ فِعلاً، أو أنَّك تتقمَّصُ شخصيةَ مجنونٍ؛ لتُخفي شخصيتك الحقيقيةَ خلفها.
قال الرجل: إنَّها الحقيقةُ سيدي.
قال المحقق: أيَّةُ حقيقةٍ يا رجلُ؟
هذه البلدةُ لم تتغيرْ منذُ أربعين عاماً على الأقلِّ، وأنا وهؤلاء الرجال وكلُّ مَن في البلدة وُلِدَ هنا، وكذلك آباؤنا.... إنَّها بلدتنا وأرضُنا.
قال الرجلُ: هذا مُستحيلٌ!.... مُستحيلٌ!.... أنا لا أصدقُ أبداً!
تغيَّرَ كلُّ شيءٍ فيها، وبقيتْ الأراضي الزراعية كما هي لم تتغيَّرْ....
لقد سافرتُ للعمل قبل عِدَّة شهورٍ فقط، عندما عُدْتُ إلى هنا لم أجدْ أحداً....
لم أجدْ زوجتي ولا أبنائي ولا بيتي...
أنا لم أجدْ أحداً أعرفُهُ في البلدة... أينَ بيتي؟
أخذَ الرجل يبكي ويُتمتمُ: لماذا فعلتُم ذلك؟
لماذا... لماذا؟؟
قال المحقق: يبدو أنَّك مُتعبٌ ويائسٌ.
المتهم: أنا في أحسنِ حالٍ، غير أنِّي أحبُّ أن أمضيَ في حالِ سبيلي لأبحثَ عن عائلتي، أرجوك يا سيدي.. أرجوك.
قال المحقق: كي أصدِّقَك، هل تعرفُ أحداً في هذه المدينةِ الكبيرة؟
قال الرجل: نعم سيدي، أعرفُهم كلَّهم...
ثم فكَّرَ قليلاً وقال: ولكن أينَ هم؟
لم أرَ أحداً منهم....
لم أشاهدْ رجلاً واحداً أعرفُه....
ماذا جرى لهم؟ أين أبعدتموهم؟
أريدُ أنْ يحضرَ العمدةُ نورمان، إنَّه يعرفُني جيِّداً، إنَّه صديقي، إنَّه يحترمُني كذلك.
ثمَّ وضعَ يديه حولَ رأسِه وهو يتألَّمُ.
قال المحقق: يبدو أنَّك رجلٌ مخادعٌ وكاذبٌ، وتُخفي سِرَّاً سأعرفُه بالتأكيدِ.
قال الرجلُ: أرجوك سيدي....
لم يشتمْني أحدٌ طوالَ حياتي، أنا رجلٌ مُحترمٌ، ومواطنٌ صالحٌ أيضاً، ليس لك الحقُ في أنْ تفعلَ بي هذا... ليس من حقِّك.
قال المحقق: أكادُ أُجَنُّ، قلْ لي اسمَ شخصٍ واحدٍ تعرفُهُ... قلْ أيَّ شيءٍ إن كنْتَ صادقاً.
قال المحقق: يجبُ أن تقولَ الحقيقةَ... يجبُ أن تعترفَ بكلِّ شيء.
قال الرجل: بماذا اعترفُ سيدي؟
قال المحقق: هذا كلامٌ لا يفيدُك أبدًا ولا أقتنعُ به....
أيها الشرطيُّ، احرسْهُ جيدًا، وانتبه فهو رجل خطير.
قال الرجل: أرجوك سيدي، أنا مظلوم....
أريدُ زوجتي.... أريدُ بيتي وأرضي.... أريد.....
أُعيدَ الرجلُ إلى المشفى لتلقِّي العلاجِ كما طلب الطبيبُ.
مدينة بايون 1827م
عاش جو ويلسون مع أخيه الأصغر المُدَلَّلِ والأنانيِّ جون وأخته جوليت لأبوين فقيرين مُعدَمَينِ في منزلٍ يدلُّ على البؤس والحرمان؛ يتكون من غرفتين حقيرتين خاليتين من أبسط الضروريات، فيهما صناديق خشبية قديمة تُستخدمُ خزائنَ لملابسهم الباليةَ وبضعُ بُسُطٍ للنوم، وعِدَّةُ أغطيةٍ مُهترئة وبعضُ أواني المطبخ الكالحةَ.
كان والدُه مارتن ويلسون يعمل نجاراً في محلٍّ متواضعٍ في أحدِ أزقَّة البلدة بأجرة زهيدة بالكاد تكفي لقمةَ العيشِ، وهو رجلٌ ضعيفٌ البنية، متوسط الطول، أصفر البشرة، رقيق اليدين، عيناه عسليتان، وأنفُهُ دقيقٌ، له لحيةٌ ذاتُ شعرٍ خفيفٍ، وقد عُرِفَ بسلاطةِ لسانِه.
أمُّه متوسطةُ الطولِ، شعرُها أشقرُ مائلٌ إلى الحمرةِ، عيناها عسليتان لوزيتان، وأنفُها جميلٌ، ورثَ جو طيبةَ أمِّه وشكلَ أبيه، في حين ورثتْ جوليت وجون جمالَ أمِّهما.
أحبّ جو أباه وأسرته وآلمته حالةُ والدِه الصحيةُ والنفسيةُ؛ إذ كثيراً ما كان يتعرَّضُ للإهانةِ من صاحبِ العملِ على مرأى من الكثيرين، فيشتمُ ويلعنُ وينهرُ بل كان صاحبُ العملِ يضربُه أحياناً، تلك الحالة التي كان الأبُ يتعرَّضُ لها من أجل تحصيلِ لقمةِ العيش لأسرته، جعلتْ من جو وحشاً في قفصٍ يتَّقِدُ صدرُه غيظاً، وبداخله صراعٌ عنيفٌ حولَ مَثَلِهِ الأعلى الذي اهتزَّ أمام عينيه مراتٍ ومراتٍ؛ إذ مَثُلَ أمام عينيه ذليلاً خانعاً لأوامر سيِّدِه صاحبِ العملِ، مِمَّا حدا به يوماً إلى الخروج من البيتِ مُبكِّراً هائماً على وجهه في شوارعِ البلدةِ على غير هُدًى يُراقبُ الناسَ وأحوالَهم، ويرى عجباً من سادةٍ ظلمةٍ قُساةٍ وفقراء بائسين؛ فيلعنُ الحياةَ وقسوتَها، ويلعنُ أغنياءَ البلدةِ البلهاء ذوي القلوبِ القاسية.
ذاتَ مساءٍ التقى جو ببعضِ الصبيةِ من أقرانه يتسكَّعون في شوارعِ البلدة قربَ الحيّ الذي يسكنُ فيه، لكنَّهم كانوا يلبسون أفضلَ منه ولديهم بعضُ النقودِ التي لم يلمسْها يوماً بيده، عندما سألهم عن حالهم عرف أنَّهم من عائلاتٍ فقيرةٍ مثله تماماً، إلَّا أنَّهم يعملون في أسواقِ البلدةِ أعمالاً مختلفةً كالعتالةِ والتنظيفِ لقاءَ بِضْعِ بنساتٍ.
عندما فاق جو من حُلْمِ الطفولة وأصبحَ صبياً يعي ما يدورُ حوله ثار ضدَّ حياة الفقرِ التي يعيشُها مع عائلته، وأخذَ يفكِّرُ في رفعِ مُستوى حياتهم ومساعدةِ والدِه المسكين الذي أعياه المرضُ في وقتٍ زادتْ معه تكاليفُ الحياة.
طلب جو من الفتيه أن يقبلوه رفيقاً لهم يشاركُهم حياتَهم، ويتعلَّمُ منهم كي يستطيعَ مساعدةَ والده، ذلك الأمرُ الذي رحَّب به الجميعُ.
في صباح اليوم التالي وفي الموعدِ المتَّفَقِ عليه وفي المكان المُحَدَّدِ التقى جو بأصدقائه الجددِ ورافقَهم ذلك اليوم ليتعلَّمَ منهم، وما هي إلا أيامٌ قليلةٌ حتَّى استقلَّ جو عن رفاقه لما رأى منهم معاملةً سيئةً للفقراء والمساكين وكبارِ السِّنِّ، وأخذَ يعتمدُ على نفسِه لكنَّه اتَّبعَ سياسةً تختلفُ عن غيره فكان يقبلُ أيَّ عَمَلٍ يُعرَضُ عليه ويقبل أيَّ أجرٍ يُدفَعُ له، وكان يعمل مَجَّاناً للفقراء على شاكلة والديه؛ فيساعدهم ويشفقُ عليهم.
أحبَّه الجميعُ لإيثاره وحُبِّه مساعدةِ غيرِهِ فكان الناسُ يتعاملون معه تاركين الصبيةَ الآخرين؛ لذا كان يقضي يومَه في العملِ دون انقطاعٍ لإخلاصه وأمانته.
كان جو ينسى الشقاءَ والتعبَ عندما يعودُ إلى بيته ويضعُ تلك البنساتِ القليلةَ التي يحصلُ عليها في يد والده، وهو يرى آثارَ السعادةِ والابتسامةَ على وجه أبيه وأمه، لكنَّه سرعان ما يقبعُ في زاويةِ البيت كعادته في كلِّ مساء حزيناً كئيباً غريباً بين عائلته شاعراً بالألم والحزنِ والتعاسةِ.
الأبُ يداعبُ جون بشغفٍ ومحبة:
عزيزي جون، يا لك من ولدٍ طيِّبٍ، سيكونُ لك مستقبلٌ رائعٌ بني.
قالتْ الأمُّ وهي تحتضنُ جون: ما أجملك! وما أروعك! ستكون لنا عوناً وسنداً، سترفعُ رؤوسَنا بين الناس، وسنفتخرُ بك بني.
جو يسمع ويتألَّمُ، جوليت تنظرُ بِشَفَقَةٍ لجو، وتتمنَّى أن يكفَّ والداها عن تدليلِ جون.
تهمسُ في أذنِ أمِّها:
أمي، أرجوك لا تبالغي في تدليلِ جون، تحدَّثي مع جو مرَّة بطيبةِ قلبٍ؛ فهو يشقى ويتعبُ من أجلنا جميعًا.
يسمعُ الأبُ كلامَ ابنته:
جوليت عزيزتي، لا أحدَ يعترف بجو، الجميعُ ينادون عليَّ بوالد جون، بل يسخرون مني بسببه، بالأمسِ عندما جاء إليَّ المعلمُ نهرَني وعنَّفني وكاد أن يضربَني عندما علم أنَّ جو ابني، إنَّه عارٌ علينا جميعًا، انظري إليه إنَّه أشبهُ بحيوانٍ، فلتأخذْه الآلهةُ بعيدًا عنا، إنَّه لعنةٌ علينا، إنَّه سببُ ما نحن فيه من الفقرِ والعذاب، صدِّقيني بنيةُ منذ وُلِدَ هذا الأبلهُ ونحن في فقرٍ شديدٍ ومرضٍ مؤلمٍ.
جوليت: إنَّه منا وله علينا المحبةُ والاحترامُ، إنَّه يكدُّ ويشقى طوال اليوم ليساعدَنا فقط، منذ أنْ عمل جو حصلنا على أشياءَ لم نكنْ نستطيعُ شراءها من قبلُ، علينا أن نُقدِّرَ ذلك والدي.
الأب: أنتِ لا تفهمين بنيةُ، إنَّه... إنَّه يُخفي المالَ عنا، لا يُعطينا إلَّا القليلَ، لن أسامحَه على ذلك أبدًا.
يعيش جو مُتألِّما بين أسرته، هكذا يمضي أيامه ولياليه، لقد تسبَّبَ له والداه بحالةٍ نفسيَّةٍ حزينةٍ ومؤلمةٍ وصعبةٍ، لكنَّه كان يحبهم ويحترمُهم خاصَّةً أختَه جوليت، كانت دومًا تدافعُ عنه وتُشعرُهُ بحبها.
كان والداه يعطفان على أخيه الأصغرِ جون كثيراً، وكان جون الطفلَ المُدلَّلَ في العائلة، له كلُّ الحبُّ والحنان، وطلباته مُجابة، حتى غدا أنانيًّا للغاية وصعبَ المِراس، لكنَّ جو تعوّدَ على تلك المعاملة غير العادلة، كان يأملُ أن تتغيَّرَ المعادلة عندما أصبح عاملاً يساعدُ في مصروف العائلة، ولكنَّه بقي مَنسياً كالعادة.
ذات يوم عاد جو من العملِ مُبكِّرًا على غير العادةِ، كان خائفًا يرتعدُ كعصفور بلله المطر، دخل البيتَ، أغلقَ البابَ خلفه، كان يُتمتمُ بكلام غير مفهوم، أسعفته أخته بكوب من الماء، رمى بنفسه بأحضانِ أمِّه، ونظر إلى البابِ قائلاً:
المُسلَّحون يُطلقون النار في كلِّ مكانٍ، قبضوا على صديقٍ لي وأخذوه معهم، كاد أحدُهم أنْ يُمسكَ بي، لكنَّني أفلتُّ منه وهربْتُ، قتلوا الكثير من الناس في السوقِ، نهبوا المحلاتِ، سرقوا كلَّ شيء... كلَّ شيء.
قالتْ الأمُّ: - بصورةٍ عفويَّة على غير العادة- لا عليكَ بني، أنت الآن بأمان، لا أحدَ يصلُ إليك، اللعنةُ عليهم، هؤلاء الأشرارُ ليس لهم عملٌ إلَّا القتلَ والنهبَ، أينَ الشريفُ ورجالُه؟ أينَ القانونُ؟
قالتْ الأختُ: لعلهم شركاءُ لهم؛ لذلك لا يظهرون إلَّا بعد فواتِ الأوانِ، حمدًا لله على سلامتِك أخي جو.
كان المسلحون الفارُّون من القانون يعيثون في الأرض الفساد هنا وهناك، تلك الحادثةُ أدخلتْ الخوفَ في نفس جو، كان يهربُ حتى عندما كان يرى الجندَ الذين يُحافظون على الأمن والقانون، وكان يعملُ في السوق بحذرٍ وخوفٍ، ويجدُ نفسَه في البيت منبوذًا من الأبِ والأمِّ، حياة اعتادها جو وعاشَها بمرارةٍ.
اعتادتْ العائلةُ كلَّ مساءٍ الجلوسَ والحديثَ، كان جون محورَ الحديث دائماً، ونظراتُ المحبة والدلال تنصبُّ عليه، فيما كان جو وحيداً واضعاً رأسَه بين ركبتيه، حتَّى يغشاه النعاسُ فيخلد في نوم عميقٍ من التعبِ والشقاء، ولم يفقْ من نومِه إلَّا في الصباحِ الباكرِ على صراخِ أبيه الذي يلكزه بقدمِه يطلبُ منه الذهابَ إلى العملِ.
يستيقظُ جو كلَّ صباحٍ مُبكراً فيرتدي ملابسَ العمل الرثَّةَ ويتناولُ الطعامَ اليسيرَ مع والده، ونظراتُ عينيهِ الحزينةُ ترقبُ أخاه جون وهو يغطُّ في نومٍ عميقٍ في فراشٍ دافئٍ، وهو يراقب قُبُلاتِ والده التي تودعه كل صباح قبلَ خروجه للعمل، فيما كان ينتظر جو يوماً آخرَ من الشقاء والتعب في ظلِّ ظروفِ الشتاءِ القاسيةِ والأمطارِ الغزيرةِ والبردِ القارسِ.
كان يفكرُ: كيفَ سيعودُ آخر النهارِ تقطرُ ثيابُه ماءً، وهو يرتعدُ من البرد في حين يرى والدَه يحتضنُ جون بشغفٍ ومحبَّةٍ أمام المنزل لدى عودته من العمل كلَّ مساء؟
هل يتقبَّلُ الأمرَ فحسب؟ أم عليه أن يدافعَ عن نفسه ويجدَ له مكانًا في قلب والده وبين أسرته؟ متى سيشعرُ أنَّ له قيمةً في البيت؟
لكنَّه كان يقول في كلِّ مرَّةٍ: هذا والدي لا أستطيعُ أن أتحدَّثَ في حضرته، عليَّ أن أعتادَ على ذلك.
كان جو بسيطاً ساذجاً ذا رأسٍ كبيرٍ وعينين واسعتين وجبينٍ ضيقٍ وحواجبَ عريضةٍ، يميلُ إلى السمرة، نحيفاً، طويلاً، سريع اللفظ، تفكيرُه محدودٌ، وهو مع كلِّ ذلك متواضعٌ وخدومٌ.
تمضي الأيام والشهورُ وجو يدورُ في نفس الحلقةِ من البيت إلى السوقِ ومن الشقاءِ إلى الأَلَمِ الذي كان يدقُّ قلبَه كلَّ مساءٍ عندما تجتمعُ العائلة، ويقبعُ هو في زاويةِ الغرفةِ يرقبُ ويتأمَّلُ ويحلمُ في عملٍ أفضلَ، بل كان يتمنَّى لو يستطيعُ الهروبَ من هذه العائلةِ والبلدةِ كلِّها إلى أيِّ مكانٍ؛ ليتخلصَ من معاناته التي يسبِّبُها له والداه بإهماله الشديد واحتضان أخيه جون حتى أصبح أنانياً وجشعاً ومُتعجرفاً حتى أن والده أرسله إلى المدرسة ليتعلم؛ فكان يحصلُ على كلِّ شيءٍ دونَ أنْ يقدِّمَ أيَّ شيءٍ.
يتبع
مدينة بايون 1827م
عاش جو ويلسون مع أخيه الأصغر المُدَلَّلِ والأنانيِّ جون وأخته جوليت لأبوين فقيرين مُعدَمَينِ في منزلٍ يدلُّ على البؤس والحرمان؛ يتكون من غرفتين حقيرتين خاليتين من أبسط الضروريات، فيهما صناديق خشبية قديمة تُستخدمُ خزائنَ لملابسهم الباليةَ وبضعُ بُسُطٍ للنوم، وعِدَّةُ أغطيةٍ مُهترئة وبعضُ أواني المطبخ الكالحةَ.
كان والدُه مارتن ويلسون يعمل نجاراً في محلٍّ متواضعٍ في أحدِ أزقَّة البلدة بأجرة زهيدة بالكاد تكفي لقمةَ العيشِ، وهو رجلٌ ضعيفٌ البنية، متوسط الطول، أصفر البشرة، رقيق اليدين، عيناه عسليتان، وأنفُهُ دقيقٌ، له لحيةٌ ذاتُ شعرٍ خفيفٍ، وقد عُرِفَ بسلاطةِ لسانِه.
أمُّه متوسطةُ الطولِ، شعرُها أشقرُ مائلٌ إلى الحمرةِ، عيناها عسليتان لوزيتان، وأنفُها جميلٌ، ورثَ جو طيبةَ أمِّه وشكلَ أبيه، في حين ورثتْ جوليت وجون جمالَ أمِّهما.
أحبّ جو أباه وأسرته وآلمته حالةُ والدِه الصحيةُ والنفسيةُ؛ إذ كثيراً ما كان يتعرَّضُ للإهانةِ من صاحبِ العملِ على مرأى من الكثيرين، فيشتمُ ويلعنُ وينهرُ بل كان صاحبُ العملِ يضربُه أحياناً، تلك الحالة التي كان الأبُ يتعرَّضُ لها من أجل تحصيلِ لقمةِ العيش لأسرته، جعلتْ من جو وحشاً في قفصٍ يتَّقِدُ صدرُه غيظاً، وبداخله صراعٌ عنيفٌ حولَ مَثَلِهِ الأعلى الذي اهتزَّ أمام عينيه مراتٍ ومراتٍ؛ إذ مَثُلَ أمام عينيه ذليلاً خانعاً لأوامر سيِّدِه صاحبِ العملِ، مِمَّا حدا به يوماً إلى الخروج من البيتِ مُبكِّراً هائماً على وجهه في شوارعِ البلدةِ على غير هُدًى يُراقبُ الناسَ وأحوالَهم، ويرى عجباً من سادةٍ ظلمةٍ قُساةٍ وفقراء بائسين؛ فيلعنُ الحياةَ وقسوتَها، ويلعنُ أغنياءَ البلدةِ البلهاء ذوي القلوبِ القاسية.
ذاتَ مساءٍ التقى جو ببعضِ الصبيةِ من أقرانه يتسكَّعون في شوارعِ البلدة قربَ الحيّ الذي يسكنُ فيه، لكنَّهم كانوا يلبسون أفضلَ منه ولديهم بعضُ النقودِ التي لم يلمسْها يوماً بيده، عندما سألهم عن حالهم عرف أنَّهم من عائلاتٍ فقيرةٍ مثله تماماً، إلَّا أنَّهم يعملون في أسواقِ البلدةِ أعمالاً مختلفةً كالعتالةِ والتنظيفِ لقاءَ بِضْعِ بنساتٍ.
عندما فاق جو من حُلْمِ الطفولة وأصبحَ صبياً يعي ما يدورُ حوله ثار ضدَّ حياة الفقرِ التي يعيشُها مع عائلته، وأخذَ يفكِّرُ في رفعِ مُستوى حياتهم ومساعدةِ والدِه المسكين الذي أعياه المرضُ في وقتٍ زادتْ معه تكاليفُ الحياة.
طلب جو من الفتيه أن يقبلوه رفيقاً لهم يشاركُهم حياتَهم، ويتعلَّمُ منهم كي يستطيعَ مساعدةَ والده، ذلك الأمرُ الذي رحَّب به الجميعُ.
في صباح اليوم التالي وفي الموعدِ المتَّفَقِ عليه وفي المكان المُحَدَّدِ التقى جو بأصدقائه الجددِ ورافقَهم ذلك اليوم ليتعلَّمَ منهم، وما هي إلا أيامٌ قليلةٌ حتَّى استقلَّ جو عن رفاقه لما رأى منهم معاملةً سيئةً للفقراء والمساكين وكبارِ السِّنِّ، وأخذَ يعتمدُ على نفسِه لكنَّه اتَّبعَ سياسةً تختلفُ عن غيره فكان يقبلُ أيَّ عَمَلٍ يُعرَضُ عليه ويقبل أيَّ أجرٍ يُدفَعُ له، وكان يعمل مَجَّاناً للفقراء على شاكلة والديه؛ فيساعدهم ويشفقُ عليهم.
أحبَّه الجميعُ لإيثاره وحُبِّه مساعدةِ غيرِهِ فكان الناسُ يتعاملون معه تاركين الصبيةَ الآخرين؛ لذا كان يقضي يومَه في العملِ دون انقطاعٍ لإخلاصه وأمانته.
كان جو ينسى الشقاءَ والتعبَ عندما يعودُ إلى بيته ويضعُ تلك البنساتِ القليلةَ التي يحصلُ عليها في يد والده، وهو يرى آثارَ السعادةِ والابتسامةَ على وجه أبيه وأمه، لكنَّه سرعان ما يقبعُ في زاويةِ البيت كعادته في كلِّ مساء حزيناً كئيباً غريباً بين عائلته شاعراً بالألم والحزنِ والتعاسةِ.
الأبُ يداعبُ جون بشغفٍ ومحبة:
عزيزي جون، يا لك من ولدٍ طيِّبٍ، سيكونُ لك مستقبلٌ رائعٌ بني.
قالتْ الأمُّ وهي تحتضنُ جون: ما أجملك! وما أروعك! ستكون لنا عوناً وسنداً، سترفعُ رؤوسَنا بين الناس، وسنفتخرُ بك بني.
جو يسمع ويتألَّمُ، جوليت تنظرُ بِشَفَقَةٍ لجو، وتتمنَّى أن يكفَّ والداها عن تدليلِ جون.
تهمسُ في أذنِ أمِّها:
أمي، أرجوك لا تبالغي في تدليلِ جون، تحدَّثي مع جو مرَّة بطيبةِ قلبٍ؛ فهو يشقى ويتعبُ من أجلنا جميعًا.
يسمعُ الأبُ كلامَ ابنته:
جوليت عزيزتي، لا أحدَ يعترف بجو، الجميعُ ينادون عليَّ بوالد جون، بل يسخرون مني بسببه، بالأمسِ عندما جاء إليَّ المعلمُ نهرَني وعنَّفني وكاد أن يضربَني عندما علم أنَّ جو ابني، إنَّه عارٌ علينا جميعًا، انظري إليه إنَّه أشبهُ بحيوانٍ، فلتأخذْه الآلهةُ بعيدًا عنا، إنَّه لعنةٌ علينا، إنَّه سببُ ما نحن فيه من الفقرِ والعذاب، صدِّقيني بنيةُ منذ وُلِدَ هذا الأبلهُ ونحن في فقرٍ شديدٍ ومرضٍ مؤلمٍ.
جوليت: إنَّه منا وله علينا المحبةُ والاحترامُ، إنَّه يكدُّ ويشقى طوال اليوم ليساعدَنا فقط، منذ أنْ عمل جو حصلنا على أشياءَ لم نكنْ نستطيعُ شراءها من قبلُ، علينا أن نُقدِّرَ ذلك والدي.
الأب: أنتِ لا تفهمين بنيةُ، إنَّه... إنَّه يُخفي المالَ عنا، لا يُعطينا إلَّا القليلَ، لن أسامحَه على ذلك أبدًا.
يعيش جو مُتألِّما بين أسرته، هكذا يمضي أيامه ولياليه، لقد تسبَّبَ له والداه بحالةٍ نفسيَّةٍ حزينةٍ ومؤلمةٍ وصعبةٍ، لكنَّه كان يحبهم ويحترمُهم خاصَّةً أختَه جوليت، كانت دومًا تدافعُ عنه وتُشعرُهُ بحبها.
كان والداه يعطفان على أخيه الأصغرِ جون كثيراً، وكان جون الطفلَ المُدلَّلَ في العائلة، له كلُّ الحبُّ والحنان، وطلباته مُجابة، حتى غدا أنانيًّا للغاية وصعبَ المِراس، لكنَّ جو تعوّدَ على تلك المعاملة غير العادلة، كان يأملُ أن تتغيَّرَ المعادلة عندما أصبح عاملاً يساعدُ في مصروف العائلة، ولكنَّه بقي مَنسياً كالعادة.
ذات يوم عاد جو من العملِ مُبكِّرًا على غير العادةِ، كان خائفًا يرتعدُ كعصفور بلله المطر، دخل البيتَ، أغلقَ البابَ خلفه، كان يُتمتمُ بكلام غير مفهوم، أسعفته أخته بكوب من الماء، رمى بنفسه بأحضانِ أمِّه، ونظر إلى البابِ قائلاً:
المُسلَّحون يُطلقون النار في كلِّ مكانٍ، قبضوا على صديقٍ لي وأخذوه معهم، كاد أحدُهم أنْ يُمسكَ بي، لكنَّني أفلتُّ منه وهربْتُ، قتلوا الكثير من الناس في السوقِ، نهبوا المحلاتِ، سرقوا كلَّ شيء... كلَّ شيء.
قالتْ الأمُّ: - بصورةٍ عفويَّة على غير العادة- لا عليكَ بني، أنت الآن بأمان، لا أحدَ يصلُ إليك، اللعنةُ عليهم، هؤلاء الأشرارُ ليس لهم عملٌ إلَّا القتلَ والنهبَ، أينَ الشريفُ ورجالُه؟ أينَ القانونُ؟
قالتْ الأختُ: لعلهم شركاءُ لهم؛ لذلك لا يظهرون إلَّا بعد فواتِ الأوانِ، حمدًا لله على سلامتِك أخي جو.
كان المسلحون الفارُّون من القانون يعيثون في الأرض الفساد هنا وهناك، تلك الحادثةُ أدخلتْ الخوفَ في نفس جو، كان يهربُ حتى عندما كان يرى الجندَ الذين يُحافظون على الأمن والقانون، وكان يعملُ في السوق بحذرٍ وخوفٍ، ويجدُ نفسَه في البيت منبوذًا من الأبِ والأمِّ، حياة اعتادها جو وعاشَها بمرارةٍ.
اعتادتْ العائلةُ كلَّ مساءٍ الجلوسَ والحديثَ، كان جون محورَ الحديث دائماً، ونظراتُ المحبة والدلال تنصبُّ عليه، فيما كان جو وحيداً واضعاً رأسَه بين ركبتيه، حتَّى يغشاه النعاسُ فيخلد في نوم عميقٍ من التعبِ والشقاء، ولم يفقْ من نومِه إلَّا في الصباحِ الباكرِ على صراخِ أبيه الذي يلكزه بقدمِه يطلبُ منه الذهابَ إلى العملِ.
يستيقظُ جو كلَّ صباحٍ مُبكراً فيرتدي ملابسَ العمل الرثَّةَ ويتناولُ الطعامَ اليسيرَ مع والده، ونظراتُ عينيهِ الحزينةُ ترقبُ أخاه جون وهو يغطُّ في نومٍ عميقٍ في فراشٍ دافئٍ، وهو يراقب قُبُلاتِ والده التي تودعه كل صباح قبلَ خروجه للعمل، فيما كان ينتظر جو يوماً آخرَ من الشقاء والتعب في ظلِّ ظروفِ الشتاءِ القاسيةِ والأمطارِ الغزيرةِ والبردِ القارسِ.
كان يفكرُ: كيفَ سيعودُ آخر النهارِ تقطرُ ثيابُه ماءً، وهو يرتعدُ من البرد في حين يرى والدَه يحتضنُ جون بشغفٍ ومحبَّةٍ أمام المنزل لدى عودته من العمل كلَّ مساء؟
هل يتقبَّلُ الأمرَ فحسب؟ أم عليه أن يدافعَ عن نفسه ويجدَ له مكانًا في قلب والده وبين أسرته؟ متى سيشعرُ أنَّ له قيمةً في البيت؟
لكنَّه كان يقول في كلِّ مرَّةٍ: هذا والدي لا أستطيعُ أن أتحدَّثَ في حضرته، عليَّ أن أعتادَ على ذلك.
كان جو بسيطاً ساذجاً ذا رأسٍ كبيرٍ وعينين واسعتين وجبينٍ ضيقٍ وحواجبَ عريضةٍ، يميلُ إلى السمرة، نحيفاً، طويلاً، سريع اللفظ، تفكيرُه محدودٌ، وهو مع كلِّ ذلك متواضعٌ وخدومٌ.
تمضي الأيام والشهورُ وجو يدورُ في نفس الحلقةِ من البيت إلى السوقِ ومن الشقاءِ إلى الأَلَمِ الذي كان يدقُّ قلبَه كلَّ مساءٍ عندما تجتمعُ العائلة، ويقبعُ هو في زاويةِ الغرفةِ يرقبُ ويتأمَّلُ ويحلمُ في عملٍ أفضلَ، بل كان يتمنَّى لو يستطيعُ الهروبَ من هذه العائلةِ والبلدةِ كلِّها إلى أيِّ مكانٍ؛ ليتخلصَ من معاناته التي يسبِّبُها له والداه بإهماله الشديد واحتضان أخيه جون حتى أصبح أنانياً وجشعاً ومُتعجرفاً حتى أن والده أرسله إلى المدرسة ليتعلم؛ فكان يحصلُ على كلِّ شيءٍ دونَ أنْ يقدِّمَ أيَّ شيءٍ.
يتبع