الدكتور سعيد بنسعيد العلوي يقدم لكتابي : الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي الصادر عن دار المدار الاسلامي ببيروت
تقديم
بسم الله الرحمان الرحيم
كثيرا ما استوقفتني الجملة الأولى من » فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة الاتصال«، أشهر كتب ابن رشد وأكثرها تداولا: »الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إما على جهة الندب أو جهة الوجوب«. تستوقفني أولا لوضوح العبارة وصراحة القصد في معالجة مسألة العلاقة بين الشريعة والحكمة. فالمعايير فقهية دقيقة (الإباحة، الحظر، الندب، الوجوب في صياغة الآمر الشرعي). وتستوقفني ثانياً لأنها تحمل القارىء حملاً على طرح سؤال تستدعيه الثقافة العربية الإسلامية وخاصة متى تعلق بمفكرين يتصل فكرهم، كلاًّ أو بعضاً بالمنطق والفكر اليوناني( قد نستحضر منهم، بجانب ابن رشد، ثلة من القضاة ممن تميزوا بفكر عقلاني مبدع أمثال الغزالي وابن خلدون والمقريزي، والطهطاوي، ومحمد عبده، ومحمد الحجوي وأضرابهم). والسؤال يدور، حول العلاقة التي تقوم في فكر أمثال من أشرنا إليهم من مفكري الإسلام بين الفقه وبين الفلسفة. وقد ورد ذكر هذه الأخيرة حيناً قليلاً أو كان التعبير عنها، أحياناً أخرى عديدة، بما يحيل إليها( الحكمة، علوم الأوائل، علوم المنطق، النظر...). والحق أن هذا السؤال الأخير يغدو أكثر قوة وإلحاحاً متى تعلق بمؤلف"بداية المجتهد" و"مختصر المستصفى" وصاحب "تهافت التهافت" و"السماع الطبيعي" و"شرح السماء والعالم" و"تلخيص ما بعد الطبيعة" وغيرها من الشروح والتلخيصات فضلاً عن "المقالات" و"الكليات في الطب". والحق أيضا أن الفهم اليقظ لفكر »فيلسوف قرطبة«، كما يصفه البعض أو " قاضي قرطبة" كما يُصر البعض الآخر على إفراده بهذه الصفة، فَهْم يكمن في محاولة إدراك الصلة بين الفقه والفلسفة عند الرجل وفي القدرة على الإتيان بالأدلة الكفيلة بتبرير ذلك الفهم وتأييده. والناظرون في مجمل النتاج الرشدي ذهبوا مذهبين اثنين في فهم الصلة بين الفقه والفلسفة عند الرجل، حتى وإن كان السؤال عنها، كما نطرحه، هامشياً أو غائباً فيما يبدو. ونحن نرى من الملائم أن نتعرف على هذين المذهبين (في الخطوط العريضة لكل منها) قبل أن نلتمس الجواب الذي يقدمه مؤلف الكتاب الموضوع بين أيديكم أو بالأحرى حتى نتمكن من تبين طبيعة الاجتهاد الذي حاوله وقيمة الجهد الذي بذله.
يصدر أصحاب المذهب الأول عن رؤية تقلل من شأن الفقه في فكر ابن رشد وفي حياته أيضاً، بل إنها تذهب، حيناً إلى التشكيك في نسبة "بداية المجتهد"- أهم مؤلفاته الفقهية مما وصل إلينا وأكثرها شهرة وتداولا- إلى هذا الرأي الأخير ذهب عبد الرحمن بدوي إذ يرى أن الأمر في ابن رشد، مؤلف الكتاب المذكور، يتعلق بشخص آخر لا علاقة له بصاحب قرطبة ومفكرها الأشهر. وقد نجد، دعاة هذا المذهب، لا يعيرون لابن رشد الفقيه أدنى اهتمام فهم لا يذكرون مؤلفاً فقهيا ينسب إليه، وذلك ما يثير دهشتنا إذ نقرأ الفصل القصير الذي يخصصه أحمد أمين لابن رشد في الجزء الثالث من كتابه" ظهر الإسلام"- والحال أن صاحب الموسوعة الإسلامية الشهيرة يتسم، في مواطن أخرى عديدة من كتبه، بالتوثيق الدقيق وبمحاولة الإحاطة والشمول. كذلك نجد البعض الآخر، ممن يقللون من خطر الفقه في فكر ابن رشد، يجنحون إلى القول بأن قاضي قرطبة لم يكن يعني بالفقه إلا التماساً لما يمكن أن نقول عنه إنه طلب »الوجاهة الاجتماعية«، وذلك رأي علي أومليل في كتابه"السلطة الثقافية والسلطة السياسية".
أما دعاة الرأي الثاني، في محاولة استكناه حقيقة الصلة بين الفقه والفلسفة عند ابن رشد، فهم يذهبون إلى التقرير بوجود ازدواجية كاملة عند الرجل بين الفقه والفلسفة. ذلك أن أبا الوليد، بحكم مهنة القضاء التي كان يحترفها والبيئة التي نشأ فيها، وبشهادة "بداية المجتهد" كان، ولا شك في ذلك، فقيهاً، بل وفقيهاً ينتمي إلى الطبقة العليا من الفقهاء-ولذلك ظل الفقهاء يرون في»ابن رشد الحفيد« عالماً مجتهدا ذا رأي يعتد به في أبواب »الخلاف العالي« ويعدونه في جملة المبرزين في صناعة الفقه. ولكن فكر »فيلسوف قرطبة« يظل في منأى عن الفقه، فهمومه المنطقية وانشغاله بحسن فهم المعلم الأول وتقريبه إلى عقول الجمهور العريض من تلامذته ورواد حلاقاته، من مسلمين ويهود، لم تكن لتدع له وقتاً للانشغال بالفقه ومجالسة الفقهاء (وربما لم يكن، ممن جايله، إجماع على الاعتراف بسلطته العلمية في الفقه- وإن كان القاضي الأكبر لحاضرة قرطبة). وإذن فليس ما كتبه في الفقه، أو أذاعه من حديث، أو ما كان بينه وبين الفقهاء من جدل -في بعض الأحيان- ليس بذي صلة بالفلسفة أو يتصل بها بسبب من الأسباب.
الحق أننا، إذ نتبين ما يذهب إليه كلا الفريقين، فنحن ننتهي إلى التقرير بأنهما يلتقيان مع الاختلاف بينهم في أنماط الصياغة وأشكال المقاربة، عند الحكم بانعدام الصلة العضوية بين الفقه والفلسفة في فكر أبي الوليد وبالتالي فإنهم ينزعون عن فكره سمة النسقية والتكامل أي ما يكون وجود المنظومة (أو افتراضها على الأقل) حاضراً باجتماعهما مثلما يكون غائباً منتفياً بانعدامها. وبعبارة أخرى فهم بين رأيين من العسير على الباحث المنصف أن يأخذ بأي منهما. رأي أول يرى في ابن رشد فيلسوفا محضاً أو خالصاً على غرار ما كان عليه فلاسفة اليونان، إلا أنه إذ يواجه، في الإسلام، بقضايا الخلق والبعث والعلم الإلهي فهو يجد لكل تلك القضايا(وما يتفرع عنها) حلاً »برهانياً« لا يخرج به عن طريق الفلسفة ولا يبعده عن زمرة الفلاسفة. ورأي ثان لا يرى في كل ما قام به فيلسوف قرطبة سوى جهد معلم يبذل ما أسعفه العمر أن يبذله في الشرح والتلخيص والتعليق، ومتى كان له أن نعترف له بجودة الصياغة العربية والوقوع على المعاني التي كان المعلم الأول يقصدها، فإنه يظل خلواً من كل أصالة وليس من المقبول أن يكون عنواناً دالاً على قوة الفكر العربي الإسلامي وعمق غوره.
عن كلا الطريقين المذكورين يحاول إبراهيم بورشاشن، موفقاً في ذلك إلى حد بعيد، أن يحيد مؤمناً في ذلك بقضيتين اثنتين متكاملتين ومتفاعلتين. القضية الأولى أن الأمر يتعلق، في النتاج الرشدي، بمنظومة كاملة قوامها الثقافة العربية الإسلامية في مكوناتها الأساس، النحو والفقه، أصولاً وفروعاً من جانب أول، والمنطق والفلسفة الأرسطيين من جانب ثان، والمعارف العقلية والتجريبية من جانب ثالث(الطب، الفلك، الطبيعة) –ودعامتها الإقرار بالتآلف والتآخي بين الإيمان والعقل أو الشريعة والحكمة. القضية الثانية هي، والعبارة له العمل أو»الرغبة في امتلاك ابن رشد العربي المسلم(...) في إعادتها إنسانياً إلى جسم الثقافة العربية الإسلامية التي نشأ فيها فقهياً وترعرع فيها فيلسوفا«. أو لنقل إن القضيتين تؤولان، عند إعمال النظر إلى واحدة شقها الأول: البحث عن الوحدة والتكامل، وبالتالي النسقية، في فكر ابن رشد. وشقها الثاني دفع الغربة عن صاحب قرطبة والأخذ به فقهياً وفيلسوفاً معاً...فيلسوفاً يرى في أصول الفقه مادة لنظر عقل رفيع، وفقهياً يرى في الفلسفة حكمة يقرها الفقه وتقبلها الشريعة.
هل كان الجواب المتعلق بالصلة بين الفقه والفلسفة شافياً عند إبراهيم بورشاشن جوابا تدعمه الحجج وينافح عنه وضوح البيان وقوة العبارة كما كان صفيه وحبيبه ابن رشد يشترط ذلك على طلاب المعرفة؟ ذاك أمر نترك للقارئ الكريم سبيل الإجابة عنه الآن وقد صار في الإمكان معرفة رأي صاحبه وتداوله. أما نحن فنقول إن إبراهيم قد بذل من الجهد ما وسعه أن يبذله وسعى إلى الإحاطة بالمكتبة الأندلسية خاصة، والإسلامية عامة، ما كان في إمكانه أن يحيط به ملتمساً خطى باحث مقتدر له على المكتبة الرشدية يد بيضاء وفي عنقنا مما بذله دين ليس يقضى إلا بالعمل على تكملته من جانب وبالدعاء له بالرحمة من جانب آخر: جمال الدين العلوي رحمه الله.