على مشارف وادي مرتيل وفي مقهى بسفح جبل بوعنان المقابل لتطوان المستلقية في دعة دون أن تفارق الابتسامة شفتيها ، جلست أرتشف فنجان شاي ساخن وقد شملني شعور بالسكينة بعد يوم شاق بين جدران الفصل الدراسي وضجيج الصغار الذين لا أنكر أنني إلى هذه اللحظة أتمنى لو كانوا معي رغم شغبهم البريء وحركاتهم الدائمة المتعبة . كنت على وشك النهوض لأتمشى قليلا لولا أن شخصا اقترب وهو يتلفت بحثا عن طاولة فارغة وبصحبته فتاة في
مقتبل العمر لا يملك الناظر إليها إلا أن يسبح الخالق لما حوته من بهاء يفتن العين والقلب معا ..
نظر إلي وفي عينيه شبه استفسار فهمته للتو فأشرت له مرحبا بالجلوس على نفس الطاولة . بدا لي كهلا رغم أن الشيب لم يغز أية شعرة من رأسه . ولم يتردد ، فجلس وبجانبه مرافقته الفاتنة مطرقة في انفعال وقد التحفت بعباءة سوداء زادتها جمالا .
- أرجو عدم الإزعاج .. هي فقط لحظات تستريح ابنتي من التعب .. هي لم تتعود صعود المرتفعات – ثم أضاف متنهدا – رغم أننا هناك لدينا أجمل الجبال .
لهجته مشرقية .. كنت متأكدا أنه من الشام بفضل تواصلي مع الكثيرين من تلك المنطقة على النت . فأجبته وأنا أهم بالوقوف :
- ليس هناك أي إزعاج البتة .. كنت سأغادر المكان على كل حال ..
- أشكرك .. محسوبك نور الدين حافظ من حلب ..
- الشهباء .. تشرفت أخي .
- تعرف حلب ؟ هل زرتها يوما ما ؟
- أعرفها .. لكني لم أتشرف بذلك . أنا مهووس بالتاريخ والجغرافيا ولدي أصدقاء من هناك على ذلك العالم الافتراضي .
- هذه ابنتي .. بردى ..
أحنيت رأسي بينما اكتفت هي بهزة خفيفة من رأسها وابتسامة خاطفة ارتسمت على شفتيها القرمزيتين وقلت وأنا أنظر إليها :
- اسم جميل جدا يحمل من سميه الكثير من البهاء ..
- رحمة الله على ذلك البهاء .. لكن قل لي "شو بتشتغل حضرتك ؟"
- مدرس ..
- ونعم المهنة .. هذا ما كانت تحلم به بردى .. هي رغبة المرحومة أمها ..
كنت أهم بطرح أسئلة كثيرة لولا أني لمحت من الفتاة شبه امتعاض يمتزج بالألم البادي في عينيها . ربما استاءت لاندفاع أبيها في ذكر أشياء تعتبرها شخصية ، لكن الرجل لم يأبه لذلك وكأنه وجد فرصة للتنفيس عما يجيش في صدره. كان متحمسا للحديث عن بردى ولا شيء عن بردى .. عن طفولتها .. عن صباها ودراستها .. عن تفوقها في الفنون والعلوم والآداب .. بردى – قال لي – كانت فخر كل مؤسسة درست فيها ..
كنت أشعر بزهو كبير وأنا أرى نفسي محط ثقة نور الدين وهو يتحدث بتلقائية وكـأنما يحادث أقرب الأقربين إليه .. حدثني عن حلب وحمص وحماة .. وعرج على دمشق وغوطتها ثم حملني حديثه الممتع إلى اللاذقية حتى شعرت وأنا أنظر عن يميني إلى البحر المتوسط أنني أشاهد بناياتها الأنيقة. ولم يخل اسم بردى من أي مكان يذكره حتى خلت أن كل الأسماء اختفت وحل محلها بردى . حتى الجولان تحدث عن شموخه وهو يذكر أن بردى فازت بأحسن قصيدة تمجد بطولاته في وجه الاحتلال .
وكنت أثناء حديثه أسترق النظر إلى الفتاة فأجدها ساهمة وقد اختفى الوجوم والاستياء من صفحة وجهها الساحر .. كنت أحس بها هناك حيث زرع أبوها اسمها في كل شبر من تراب البلد .. بل إن ذهني أوغل في الزمن السحيق ليجوب أرجاء الشام قبل الفتح وبعده ليوغل أكثر في الماضي حتى خلتني أسمع صدى لأسماء تمتزج ببردى والعاصي ويتردد اسم جلق فيجعلني استكين لذاك السرد الشيق منتشيا بالإصغاء إلى حديث نور الدين .
إنصاتي وعدم مقاطعتي للرجل جعله يقرب كرسيه ليصير حديثه همسا ، بينما استدارت بردى نحوي وقد تهلل وجهها بشرا وانتفت عنه تماما أمارات الامتعاض والألم .. وحين اصطبغ الأفق بالشفق عند الغروب ، انتبهنا إلى أن وقت الانصراف قد حان . لكن ركوبنا معا سيارة الأجرة أخر افتراقنا إلى حين ونحن نتوجه إلى تطوان . كانت لهفتي شديدة لاستضافة الرجل وابنته لكن شعورا غريبا جعلني أعزف عن ذلك حتى شعرت بالخجل من نفسي وهو يدعوني لتناول "الشوارما" عند أحد مواطنيه المالك لمحل "نور الشام" للأكلات الخفيفة في وسط المدينة .
- صحة وهنا – قلت وأنا أنظر لبردى ..
- على قلبك – ردت باستحياء ..
كانت هذه أول مرة أسمع فيها صوت بردى الرخيم وكأنه ترنيمة منبعثة من هدير النهر المنساب هناك في موطنها . كنت متلهفا لسماع الكثير منها ، لكنها بدت لي من النوع الذي ينطق في صمت . إذ كانت عيناها تحكي بموازاة كلام أبيها وتنفعلان وتبتسمان وتضحكان . بل إني شعرت بهما تصيحان تارة في فرح وتارة أخرى في ألم حتى خيل إلي في لحظة أن كل شيء ينزف داخلها .
لم أذق طعم الشوارما لانشغالي بما هو آت .. كنت أسائل نفسي هل آن أوان فراق هذين الشخصين وبكل هذه البساطة وأنا أحس أنهما ملآ علي الدنيا ؟ كيف سيختفيان سريعا وقد صار الماضي والحاضر جزءا مني وصرت قطعة منهما ؟
لم أشعر إلا ونور الدين ينصرف إلى مواطنه ليتبادلا حديثا وديا ووجدت نفسي لأول مرة منفردا مع بردى وقد توردت وجنتاها بفعل دفء المحل ولمعت عيناها ربما ابتهاجا بقضاء أمسية أنستها همومها . لكننا لم نتبادل أية كلمة واكتفينا بالنظر لحظات أعادتني من جديد إلى ربوع الشام أرتع وألهو بين رباه ووديانه .
مرت لحظات لم أعد أرى فيها الرجل .. ربما كان يتدارس مع صاحب المحل أحوال البلد وتطورات الأمور فيه ولم أنتبه إلا وهو يشير إلى بردى بالنهوض ثم يقترب مني ويشد على يدي بحرارة ، بل ويحتضنني .. حدق في عيني برهة قائلا :
- علينا بالرحيل .. لكني متأكد من أننا سوف نلتقي .. متى وأين ؟ الله أعلم .. أشكرك على رفقتك لنا .. بردى ممتنة لك على مؤانستك ولطفك ..
ثم خرجا ليلفهما ظلام الليل بينما لبثت جالسا على طاولتي ساهما وأنا ألتفت بين الفينة والأخرى إلى الباب وكأني أنتظر عودتهما من جديد .. ثم غادرت المحل لأذرع الشوارع المقفرة حتى ساعة متأخرة من الليل .
في صباح اليوم الموالي مررت بـ"نور الشام" وقد شملني شعور بحنين وبفراغ قاتل .. نظرت إلى الداخل حيث كانت بردى مقتعدة كرسيها بالأمس وتأملته في صمت ثم درت على عقبي مبتعدا .. لكني فوجئت بصاحب المحل يقف بالباب ويشير إلي بالرجوع . - كيفك سيدي ؟.. الله يعطيك العافية .. خذ .. هذه ورقة تركها لك السيد نور الدين .
- شكرا لك سيدي ..
أخذت الورقة بلهفة وانطلقت إلى رياض العشاق الذي بدا خاليا من الزوار في تلك الساعة المبكرة من الصباح وجلست أقرأ وأعيد قراءة الورقة دون ملل .
"أشكرك سيدي من جديد على لطفك ونبلك .. كانت اللحظات التي قضيناها برفقتك ممتعة بكل ما في الكلمة من معنى . لا أذكر أني التقيت شخصا منح حديثي كل هذا الاهتمام أو أصغى إليه كما فعلت أنت.
حين تبدأ بقراءة هذا الخطاب سنكون بعيدين لكنني كما قلت لك أحس أننا سنلتقي يوما ما ، إن لم يكن هنا ، فسيكون بإذن الله على ضفاف بردى .. بردى تبلغك امتنانها على رقتك وحسن رفقتك لنا . لكن قد تستغرب من شيء سيدي ، وهو أنني أنحني لك إجلالا وإكبار على عدم استضافتك لنا ولا عن تلميحك لرغبتك في بردى رغم أن كل شيء كان يصيح بذلك في عينيك ، مما جعل بردى تلح علي بالعودة مرة أخرى لاستضافتك أو لقبول دعوتك حتى ولو لم توجه إلينا دعوة ، وهذا ما لم تفعله أبدا مع أحد غيرك .. هكذا هي بردى . قد تبدو غريبة الأطوار لكنها تتمسك بما تعتبره أغلى ما تملك .. عزة نفسها التي حاول الكثيرون النيل منها ..دون جدوى .
التقيت بأناس كثيرين أبدوا تعاطفهم بمجرد معرفتهم بجنسيتنا وانهالت علينا الدعوات سواء لاستضافتنا أو لطلب بد بردى ، لكن لا أحد أدرك أننا في غنى عن هذه الاستضافة وأنها تثير فينا من الألم أكثر مما تحدثه من الاعتزاز .. وأن طلب يد بردى من سابع المستحيلات ، لأن لا أحد فهم أن بردى ملك نفسها وليست مستعدة ليملكها أحد .. بردى أدركت منذ وعت أنها لن تكون لأحد ، بل إن الكل سيكون لها . وهذا ما سبب لها الألم والوجع حتى من أقرب الأقربين .. من يرى بردى يفتتن بسحرها وجمالها لكن لا أحد يحس بما أحدثه الأذى في نفسها ، هذا الأذى الذي كاد يحطم كل شيء فيها لولا أنها بردى . لقد كنت عند حسن ظني بك مذ رايتك للوهلة الأولى سيدي .. ولهذا دعني أعبر لك عن مدى امتناننا وإعجابنا .
سنجوب كل ربوع بلدكم العزيز وربما نزور بلدانا أخرى ، لكننا سوف نحط الرحال هناك على مشارف الغوطة لأن بردى تريد ذلك ولأن بردى متأكدة من أنها سوف تعود كما كانت لأنها يجب أن تكون كذلك .
شكرا لك مرة أخرى .. وتقبل تحياتي وسلام بردى ."
****
صار من عادتي أن أنهض باكرا وأمر على "نور الشام" لألقي التحية على صاحبها ، ثم أتأمل الكراسي لحظات قبل أن أيمم شطر رياض العشاق وأجلس قبالة النافورة الأندلسية ، وأفتح هاتفي المنقول الذي حملته بأغنية صارت أثيرة لدي وأعود في الأخير عبر شارع النخيل مترنما :
مر بـــي يا واعداً وعـــداً مثلما النســــمة من بردى
تحـــــمل العــــمـر تــبدّده أه ما أطــــيـــبه بــــددا
رب أرض من شذا وندى وجراحــــات بقلب عدى
سكتت يــوماً فهل ســـكتت أجمل التـــــاريخ كان غدا
واعدي لا كنت من غضب أعرف الحب سنى و هدى
الهــــــوى لحـظ شــــآمية رق حتـــى خلـــته نــفـــذا
هكذا الســـيف ألا انغمدت ضربة والسيف ما انعمدا
واعدي الشـمــس لنا كرة إن يـــــد تتـــعب فناد يــدا
أنا حبي دمــــعة هجرت ان تعد لي أشـــعلت بردى
واووووووووووووووو
الاخ رشيد هنا بشحمه ولحمه
ما هذه المفاجأة الرائعة
كم اشتقنا لحرفك الذهبي و أسلوبك الراقي الجميل يا عاشق الجبل
ولكن صدقني بت مؤمنة بظهورك الذي لا نشبع منه حى يختفي دون سابق إنذار
فأهلا وسهلا بك بيننا وفي رعاية الله إن كنت تنوي الرحيل ههههههههههههههه
سعيدة بعودتك
واووووووووووووووو
الاخ رشيد هنا بشحمه ولحمه
ما هذه المفاجأة الرائعة
كم اشتقنا لحرفك الذهبي و أسلوبك الراقي الجميل يا عاشق الجبل
ولكن صدقني بت مؤمنة بظهورك الذي لا نشبع منه حى يختفي دون سابق إنذار
فأهلا وسهلا بك بيننا وفي رعاية الله إن كنت تنوي الرحيل ههههههههههههههه
سعيدة بعودتك
كل الشكر والامتنان لك أختي ليلى على هذه الحفاوة التي استقبلت بها قصتي ..
تعودت على تشجيعك الذي يحفزني للمزيد من العطاء ..
مودتي وورودي