حرارة الجو خارج المقهى ، جعلتني أرضى بالبقاء في الداخل .. فسحب الدخان ورائحة المحل أرحم من شمس الشارع .. وفي (طاولة) الزاوية التي أحب أن أكون عليها لكونها تطل نافذتها مباشرة على شارع الإذاعة ، جلست أنتظر صديقا كنت أعمل معه كمحاسب .
وبعد نصف ساعة من الانتظار ،حضر صديقي أبو شعيرة ، وهو فيلسوف ومفكر رغم أنّه لم يواصل دراسته الثانوية بسبب زواجه المبكر .. وقد دعوته لمواجهة الأستاذ علي مدرس الفلسفة بمدرسة الحي الثانوية والذي كان يصر دائما على معاكستي .. وبعد دقائق من وصول أبو شعيرة حضر الأستاذ علي .. وبعد السلام والتعارف بدأت بعرض شيء جديد لم أناقشه مع الأستاذ علي من قبل .. " كيف ترى الحرية في الوقت الحالي يا أستاذ علي .."
فقال وبجمل مسبوكة " الحرية .. هي السعادة .. والسعادة هي الحرية .. و الإنسان السعيد هو الإتسان الحر .. ترون أن تعاسة البشر دليل عن عدم حريتهم .. بينما الخلق عموما ، كل الخلق تتفاوت لديهم الاحساس بالحرية وبقيمتها أيضا .."
فخلع أبو شعيرة نظارته السوداء وسأله " يا أستاذ علي أي مخلوق تراه حر ..؟"
فقال بلهجة الواثق " طبعا الحيوانات أقل حرية من الطيور .. والطبقات العليا في المجتمع أكثر حرية من الطبقات السفلي .. و ..و.."
فقاطعه أبو شعيرة غاضبا " لما لا تجب على قدر السؤال يا رجل ..؟!"
- " لقد قاطعتني ولم تترك لي الفرصة لأجيب عن سؤالك .. الأنسان طبعا هو المخلوق الحر .. لوجود العقل لديه ..و .. و "
- فقاطعه أبو شعيرة للمرة الثانية قائلا " أنك تهذي .. فالمخلوقات التي بدون عقل أكثر سعادة من البشر .. ثم أنّ الكلب هو المخلوق الوحيد الحر في العالم ..!! "
- " الكلب الحيوان النجس .."
- " أرني مخلوقا حرا مثل الكلب ، لن تجد .. فالكلب ينام حيث يشاء ويأكل في غير مواقيت .. لا يحتاج لمأذون ليتزوج .. وهو لا يهتم بالحمام وإزالة رائحته الكريهة .. إنّه لا يحتاج لبطاقة شخصية ، و لا يذهب للتصويت ، و لا يطلب من أبنائه أن يحملوا اسمه واسم العائلة .. ثمّ أنه لا إلتزام لديه .. ولا يطالب بحقوق .. و لا يقود فصيلته و لا يدافع عنها .. على عكس معظم المخلوقات .. إنها الحرية الحقيقية ..!! "
- فقلت محاولا أن أشعلها حربا بينهما .." تقصد أنّ الأستاذ علي لا يفهم ما معني الحرية .. لا أعتقد يا صديقي أنك فهمت رأيه .. إنه ينظر من رؤا أخلاقية تقدس العقل .."
أبوشعيرة : " حسنا العقل زينة للبشر ولكن أليس سبارتكوز وكل عبيد روما كان لديهم عقلا و لم ينفعهم ذلك في جلب السعادة بل ماتوا عبيدا يباعون ويجلدون .. أم أنكما لا ترونهم بشرا مثلا ..؟"
أ. علي :" المدرسة البراجماتية ترى أنّ العقل بما يحققه من تقدم هو أقدر على إيجاد سبل تحقيق السعادة .. والمخلوق العاقل هو من يكيف حياته لكي يصنع منها السعادة .."
أبوشعيرة : " لم أكن أتوقع أنّ الكلب ليس مخلوقا .."
أ علي :" لا هو مخلوق ولكنه ليس حرا فالبدو يربطونه أمام مضارب الحي حتى يموت في خدمتهم طيلة عمره .. وفي المدينة يقتلون الكلاب الضالة .. بينما يستنسخ منها خلق بعضها للحراسة والأخر للسباق .. والقليل للتربية داخل البيوت .. وبمجرد إفلاس أهلها يطردونها في الشارع لتعود ضالة فتقتل من قبل رجال الحرس البلدي ..!!"
- " البشر أيضا منهم من يمتهن الحراسة .. ومنهم من يمتهن الرياضة .. ومنهم من يستجرم فيصبح مطاردا ويقتل بتهمة الإرهاب أو السياسة ..!! كما أنّ الكثير من المواليد غير الشرعيين يضعون في صناديق القمامة أو أمام أبواب بيوت الله والمدارس .. فهل هذه هي السعادة عند المخلوق البشري ..؟!!"
- "إنك حقا لم تفهم معني السعادة .. الموت دفعا عن الوطن وهي الشهادة في سبيل الله قمة السعادة .."
- " لم أصادف أحدا من الشهداء ولكن الله أخبرنا بأنهم عنده مكرمون .. وهولاء الشهداء هم من يستشهدون في سبيل الله .. وليس من أجل أن يقال عنهم شجعان أو أبطال .. ومع ذلك ، فالكلب سعادته لا تقاس بسعادة البشر الذين لو ناموا في خارج بيوتهم أو أصبحوا بدون مأوى لا رأيتهم على تعاستهم الحقيقية فعدم الانتماء للمكان أو للعشيرة حرية قصوى وراقية .. أوافقك أنّ السعادة هي الحرية والبشر ينتحرون عندما تحبط آمانيهم وتندثر السعادة في عقولهم .. هل تعرف كلبا ينتحر من أجل كلبة تركته لتعاشر غيره ..؟!!"
- " و هل هناك سعادة أن تحي كالكلب ..؟!! "
- " أنت لا تفهم معنى السعادة .. أنت لا تفهم كيف يكون المخلوق حرا ..!!"
- " حسنا لما لا تساعدني على فهم ذلك منك .."
- " هل تستطيع أن تأكل في المطعم دون دفع حساب الغذاء ..؟!! "
- " طبعا لا ..!!"
- " سيضربونك أو تسجن إن لم تدفع نقدا ثمنا لما أكلت .."
- " نعم سيحدث ذلك .."
- " الكلب يفعل ذلك .. لا يدفع ثمن طعامه .. "
- " ولكنهه لا يتناول الطعام في مطعم بل من القمامة و فضلات الجيف .."
-" إنه يجد السعادة المطلقة في أن يأكل دون دفع حساب و لا يعاقبه أحد .."
-" ولكن التكليف هو الفرق بين البشر وباقي المخلوقات .. و السعادة ليس في اللذة بل في الحرية التي هي فعل وليس مجرد عمل يومي للبقاء حياً .."
- " أنت تتكلم عن الوطن و المواطنة وعن سعادة المخلوقات البشرية ، وأنا أتكلم عن الحرية و المخلوقات لا أرى أننا سنتفق .."
وصمت الإثنان قبل أن يغادرنا الأستاذ علي .. عندها ضحك صديقي أبو شعيرة قائلا " هل تعلم إني أكره الكلاب .. و أحتقر ما تخلفه من مخلفات على الأرصفة ، إنها عكس القطط التي تقوم بتغطية مخلفاتها وتحافظ على نظافة قوائمها و فروها بشكل أنيق .. لو أنّ لهذه القطط عقلا، لا كانت أسعد المخلوقات في الكون ..!!"
رد: المخلوق الحر .. خربشات على رصيف المقهى (1)...!!
منطق غريب و رؤية غريبة للحرية من قبل أبو شعيرة المتشبث برأيه حتى مغادرة الأستاذ علي
سلمت أستاذي علي فلقد أجدت نقل الحوار بينهما و رؤية كل منهما للأمر
بدون ملل قرأتها و أعجبتني طريقة النقل و كأنني معهم
لك و لحرفك الجميل تحياتي و تقديري.