قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه ( التبرالمسبوك في نصيحة الملوك ) كان بمدينة ( مرو) رجل اسمه " نوح بن مريم " وكان رئيس مرو، وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة وكانت له ابنة ذات حسن وجمال قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء فلم ينعم لها لأحد منهم وكان له غلام هندي تقي اسمه مبارك وكان له كرم عامر بالأشجار والفاكهة والثمار .
فقال للغلام : أريد أن تمضي وتحفظ الكرم .
فمضى الغلام وأقام في الكرم شهراً، فجاء سيده في بعض الأيام إلى الكرم لينظره.
فقال له : يا مبارك ناولني عنقود عنب. فناوله عنقودا ًفوجده حامضاً.
فقال له سيده : أعطني غيرهذا، فناوله عنقوداً فوجده حامضاً.
فقال له : ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض ؟
فقال : لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو.
فقال له سيده : سبحان الله لك في هذا الكرم شهر كامل ماتعرف الحامض من الحلو.
فقال : إنني ما ذقته ولم أعلم أحامض هو أم حلو.
فقال : له لما لم تأكل منه ؟
فقال : لأنك أمرتني بحفظه ولم تأمرني بأكله. فما كنت لأخونك.
فعجب القاضي منه فقال له : حفظ الله عليك أمانتك.
فزوج القاضي ابنته بالمبارك وأعطاهما مالاً عظيماً، فأولدها المبارك ولداً سماه عبدالله
قال فيه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه .
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى : إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام .
وقال ا بن عيينة : نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض : سئل ابن المبارك من الناس ؟ قال العلماء ، فمن الملوك ؟ قال الزهاد ، قال : فمن السفلة ؟ قال : الذي يأكل بدينه .
وقد بلغ من ثقتهم به رحمه الله تعالى أنهم اتهموا من يغمزه بشيء ، وشكوا في دين من ينتقص منه شيئاً ، قلما اتفق لأحد غيره. وكان رحمه الله تعالى يحج عاماً ويغزوعاماً فإذا حج قبض نفقة إخوانه وكتب على كل نفقة اسم صاحبها وينفق عليهم ذهاباً وإياباً من أنفس النفقة ويشتري لهم الهدايا من مكة و المدينة فإذا رجعوا رد إلى كل واحد منهم نفقته.
عن القاسم بن محمد قال كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلي إنا لنصلي وإن كان يصوم إنا لنصوم وإن كان يغزو فإنا لنغزو وإن كان يحج فإنا لنحجز. قال فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج ابن المبارك يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجهه ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصارإلى ظلمة ذكر القيامة.
قال الحسن بن الربيع قال سمعت ابن المبارك حين حضرته الوفاة وأقبل نصير يقول يا أبا عبد الرحمن قل لا إله إلا الله فقال له يا نصير قد ترى شدة الكلام عليّ فإذا سمعتني قلتها فلا تردها عليّ حتى تسمعني قد أحدثت بعدها كلاماً، فإنما كانوا يستحبون آخر كلام العبد ذلك .
توفي رحمه الله تعالى بالعراق منصرفاً من غزاة في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة ، وله ثلاث وستون سنة.
قال محمد بن الفضيل بن عياض رأيت عبد الله بن المبارك في المنام فقلت أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال : الأمر الذي كنت فيه ، قلت : الرباط والجهاد ؟ قال : نعم . قلت : فأي شيء صنع بك ربك ؟ قال : غفر لي مغفرة ما بعدهامغفرة.