( الدفتر ) كعادته من حينٍ لآخر أخذ يلملمُ أشياؤه المبعثرة في كل أرجاءِ غرفته بشكل فوضوي مُزعج كي يتخلص مما لم يعد بحاجة إليه و يُوسع المكان لأشياء أخرى يجول في خاطره أمر الحصول عليها وبينما هو منهمكُ في الترتيب و التنظيف ووضع ما أراد التخلص منه في سلة المهملات فإذا بعيناه تتعثرانِ بدفترٍ صغيرٍ قد ترك الزمانُ بصمته الخريفيةِ على أوراقه المتآكلة بشكلٍ ملفتٍ للنظر أخذ يقلبُ الدفتر بين يديه لم يعد يذكر شيئاً عنه فتحه وبدأ يقلب بين أوراقه ومع أول ورقة قرأها استحضرت ذاكرته المتعبة قصة ذلك الدفتر كاملة ُ بكل أحزانها و أفراحها لقد كان فيها قصيدةً كان قد نظمها احتفاءً وابتهاجاً بأول اعتراف من حبيبته بأنه الرجل الوحيد الذي استطاع اقتحام حصون قلبها المنيعة و الاستيلاء على مفاتيح ومقاليد هواه دون أية مقاومةٍ تُذكر و فتح صفحةً أخرى فإذا بها رسالةُ لومٍ وعتاب قد أرسلتها له الحبيبة بعد عدة تصرفات صبيانية طائشة قد قام بها في محاولةٍ منه لإثبات صدق دعوته في الحب وقد تسببت لها تلك التصرفات بمشاكل و إحراجات أمام جيرانها و أهلها و بدأ يفتح صفحة تلو الأخرى وفي كل صفحة كانت الذاكرة تعيد أمامه مشهداَ من فصول مسرحية حبه إلى أن فتح صفحةً كان فيها قصيدة رثاء نعى فيها حبه الأول والأخير فوقف يتأمل آثارها الشهيدةَ وقوف الشعراءِ على أطلالِ الأحبّة ومع آخر حرفٍ قرأه ناداه قلبه الجريح بإشفاق ٍ ناصحاً له أن يا صاحبي إيّاك أن تفكر بالرجوع إلى ذلك الزمان فمن كان حصاده من أرضِ الحب قلبٌ مُهشم و نفسٌ مُنكسرة و عيونٌ دامعة و جسدٍ مُتعب لا يجدرُ به الرجوع إلى نثر بذوره فيها مرة ً أخرى مهما حاولت حوادث الزمان أن تعيده إليها فنظر إلى دفتره نظرةَ من يُودع عزيزاً قبل دفنه ثم رماه في السلة مواصلاً لعمله وكأن شيئاً لم...... يحدث ( سكرات حزين ) لم يكن أصحابه قادرين على فهمِ طبيعةِ ما يجري معه فكيف لرجلٍ قد سكن الوجعُ في قلبه والدمعُ في عينه والهمُ في صدره جراءَ مُصيبةٍ قد عصفت رياحُها الهوجاء بسفينة حياته الآمنة المُستقرة أن يُطلق من حينٍ لآخر رشقاتٍ من الضحكاتِ الطويلة على مواقف بسيطةٍ لا تستدعي بطبيعة حدوثها الضحكَ أو الابتسام رغم أنهم لم يعهدوا به من قبل لوثاتٍ من الهيستريا أو نوباتٍ من الجنون كما أنهم قد شهدوا له برجاحةِ العقلِ و سلامةِ السليقة وحُسن الطباع وطيب المعشر وذات يومٍ سمع طرفاً من حديثهم عن حالته الداعية إلى التعجبِ والاستغراب فآثر أن لا يقاطع جلستهم و انتظر أن يدلو كل واحد منهم بدلوه حتى إذا ما فرغ الجميع من الحديث دخل عليهم بابتسامةٍ قد ارتسمت ملامحها المُضطربة على وجهه وقال لهم : كما أن للموتُ سكراته فإن للحُزنِ سكراتٌ تختلف هيئتها من شخصٍ لآخر وإن تلك الضحكات التي أطلقها والابتساماتِ التي أرسمها من حينٍ الآخر ما هي إلا سكرات......... حزني ؟؟!! ( الساعة الثامنة ) ما أن انتهت من صلاتها حتى سارعت إلى الجلوسِ بقربِ الهاتفِ وعيناها تترقبان بشغفٍ وقلق عقاربَ الساعة وهي تسيرُ ببطءٍ شديد في رحلتها إلى الساعةِ الثامنة ولسانها غارقٌ في بحور الُدعاء والمناجاة ويداها تحتضنان طفلها الرضيع تَهُزانه بحنانٍ ورفق لعله يكفُ عن الصراخ والبكاء وعقلها يُجري حساباتٍ لم تكن بحُسبانها من قبل وعند الثامنة كان الهاتفُ يرن..... ترددت كثيراً قبل أن ترفع السماعة فالأخبار المختبئة وراءها ربما ستتغير بها خريطةُ حياتها وحياة طفلها فجمعت بقايا جأشها و حزمت أمرها و رفعت السماعة التي كان على طرفها الآخر طبيبها فطلبت منه أن يُصارحها على الفور بحقيقةِ التحاليل الطبية التي أُجريت لها وما أن بشرها بعدمِ وجود أيةِ أورامٍ خبيثة في جسدها حتى أُسقطت سماعةُ الهاتفِ من يدها و أجهشت في بُكاءٍ حار و سارعت إلى ضمِ طفلها إلى صدرها بقوة حتى كادت أن تخلع أضلاعه ثم أمسكت السماعة بيدها من جديد وشكرت الطبيب على هذه البشارة الطيبة أغلقت السماعة وذهبت بطفلها إلى سريرها و وضعته إلى جوارها و قالت له باسمة وهي تمسح دموع الفرح عن عينيها : غداً يا برعمي الصغير عندما يُرجع أباك من سفره أخبره بأنه لم يعد بحاجة إلى خادمةٍ تعتني........ بك ؟؟؟؟!!!!! هذا وما الفضل إلا من الرحمن بقلم......... ياسر ميمو