الإيقاع في قصيدة
(عض الأصابع)
للشاعر الأردني محمد ذيب سليمان
الشعراء أرواح وهم يختلفون في طرائق ووسائل التعبير عن خلجات النفس الشاعرية لديهم .
وأنا قد عضضت أصابعي بعد أن أخذ الشعر والعشق مني عمرا
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني
وفرق الهجر بين الجفن والوسـن
فمنذ زمن بعيد غادرت حمامتي أيكها وتركتني وما واساني إلا حرف الأنين الذي ماعاد يجدي نفعاً كما قاله أبو الأمين في قصيدته موضوعة البحث أدناه والتي عنونها بـ(عض الأصابع).
وها أنذا أجد من يعض أصابعه باستعمال فعلين (عض، ألقِ) نقل من خلالهما فحوى القصيدة وألم الخيبة والندم اللذان تملكاه لحظة كتابة القصيدة أو ما قبلها.
عض الأصــابع , ألقِ الروح في النَّدم
ما عـــاد يجــدي أنيـن الحـرف والقلـم
أودعــت خلفــك بحـــراً لا حــدود لـــه
ثم انثنيــت تــدسُّ السُّــم فـــي الدَّســم
المكمل لإيقاع البيت الشعري، هي الدفقة التي تمنحه وظيفة جمالية بترديدها في آخر الأبيات بوصفها اخر مظهر من مظاهر الإيقاع في البيت الشعري إذ يصل الإيقاع إلى مداه فيها بما توفره من انسجام صوتي بين حروفها. أما التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها فهو أيضا يصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع.
ودفَّـــــةُ الغيــــم مِجـــدافٌ يُحَرِّكـــــه
كأنـــه فــي المدى يمشــي على القمـم
التواؤم في الوحدات الموسيقية التي تتكرر في البيت هي من مظاهر جمال التناسق الموسيقي، وان تمام الأبيات ضمن التكوين البنائي العام للقصيدة، وتردد الوزن والقافية اللذانِ يشكلانِ وحدة بنائية للقصيدة المتولدة فالتكرار يمنحها جِرسا نغميا تطرب إليه النفس عند سماعه، وأن البنية الشعرية لاتبدو في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ، بل إنها تكشف الطبيعة الجدلية لهذه الدلالات، وتجلو خاصية التناقض الداخلي في ظواهر الحياة واللغة، الأمر الذي تعجز وسائل اللغة العادية عن التعبير عنه.
وهذا التكرار للوحدة الصوتية لايتولد عن التكرار الموجود في الوزن والقافية فحسب، وانما يتولد من تكرار الألفاظ والعبارات التي يتخيرها الشاعر ليؤدي وظيفة إيقاعية خاصة في بقية اجزاء القصيدة، فضلا عن الحلاوة في الأسلوب، والسمو في المعاني، والعذوبة في الإنشاد، وتناوب الألفاظ والتراكيب والمعاني واعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما موسيقيا يتقصَّده الناظم.
الليل والنجم والسحر البدر والأرجوحة كلها كلمات رومنسية تهزهز المشاعر بأصواتها وحزم النغم فيها يعطي للإيقاع نكهته ولترتيب خارطة التشكيل القادم لهندسة الأصوات التي تتوائم مع حركة النفس الداخلية.
في المستوى الكيفي اعتمد على النَّبْر في الجمل، وربما في الكلمة الواحدة.
وفي المستوى التنغيمي اعتمد على أصوات الجمل، من صعود وانحدار وماشابه.
بهذه المقاطع نشر على القصيدة إيقاعاً وترنيماً ينساب الى أذن القارئ ويشيع بداخله إنشاداً وهو بمثابة همزة الوصل بين الشاعر والمتلقي فمصدر النغم الموسيقي جاء لتأكيد المعنى وتكثيفه، فالشاعر في لحظة بوح واعتراف، أحرقه وهيج ما بداخله.
وجاءت كلمتا (رضيع الحب) بوقعٍ موسيقيٍّ يؤكد مكانة ومنزلة المعشوق في قلب الشاعر.
وهمسـة العشــق فــى كفــيَّ أغرقهـــا
بين الــرذاذ وانفـــاس النــدى العَــــرِم
نغفـو بعيــداً علــى الغَيْمـاتِ في خــدر
ويمــلأ الـكــأس ولـــدان من الخـــــدم
وقد منح هذا النوع من الإيقاع سرعة موسيقية على القصيدة تتلائم مع وظواهر جرسها حيث يسعى الشاعر من خلاله أن يمتع القارئ.
يا قلب كنــا ونبـضُ الحــبِّ يجمعُنا
وهذا يعود أيضاً الى ذكاءه وحنكته.
تلك الحروف التي يشكل الروي والردف والتأسيس أبرز مظاهرها، فتشترك مع إيقاع البيت وتتجاوب معه في النسق العام.
وهنا اتفقت القافية مع الإيقاع الشعري فانحصرت الشحنات الوجدانية للشاعر لأنهما المنظمان لانفعالاته ولاسيما القافية، بيد أنَّها لا تحول دون انطلاق الاحاسيس والعواطف ضمن المعاني والافكار التي تنتظمها:
والألفاظ والتراكيب الفنية عندما تشكل مقومات العمل الشعري، أو تقيدها، فهي الضابط الذي يحصر الشاعر ليسعى في تنظيم المكونات الشعرية إلى آخر وحدة موسيقية في البيت. فالأسلوب الشعري لا يَصلُح له من العبارات إلا ما كان موزونًا، وله جرسٌ موسيقي، ولا يصلح له من العبارات أيضًا إلا ما كان جَزِلاً ورقيقًا؛ حتى يتحقَّق عنصر التهذيب والتأثير المرجوَيْن من الشعر.
فبقصدٍ أو دون قصد كرر الشاعر حرف النون ففي علم الأصوات أن للنون صوتً مجهورً متوسط بين الشدة والرخاوة، وصوت النون يحضر في الألفاظ المعبرة على الأحاسيس الداخلية كالحزن والحنين والنشوة ولعل هذا المعنى الأخيرهو الوارد في قوله ( نغفـو بعيــداً علــى الغَيْمـاتِ في خــدر)
غالباً ما تنسب القصيدة الى حرف الروي، فنبرته أو النغمة التي ينتهي بها البيت والذي يلزم الشاعر تكراره في أبيات القصيدة؛ ليكون الرباط الذي يساعد على حبكة القصيدة وتكوين وحدتها، وموقعه اخر البيت، أي أنه تردد صوتي واحد في أواخر الأبيات.
وجرسه الموسيقي ناشيء من انفعال الشاعر ساعة ابداع عمله الشعري، وقد يحدث رنينا موسيقيا متناغما يشد انتباه السامع اليه، ويثبته في ذهنه عند قراءة القصيدة بصوت مسموع، فهو أهم عناصر مقومات الأصوات في القافية.
أما التوظيف الصوري والإيقاع المترنم ينهي وحدة البيت ليفسح لبيت آخر يصبُّ فيه الشاعر الذيب أنفاسه بنغمٍ محسوب ليتحقق التطويع بين المبنى والمعنى، بين التصوير والتخييل بين التعبير والتركيب، وكل نوع من هذه الأبيات يعكس اسلوبا معيّنا وايقاعا مخصوصا يعتمد على الأذن الموسيقية الرهيفة للشاعر.
وحرف الروي هنا هو « الميم » وهو من حروف الذلاقة المرنة ، فمن خصائصها قدرتها على الانطلاق دون تعثر في تلفظها، وسهولة النطق بها وقد كثرت في ابنية الكلام مما يسوغ كثرة استعمالها انها من الأصوات المجهورة اذ لولا ذلك لفقدت اللغة اهم عنصر فيها وهو تنغيمها وموسيقيتها ورنينها الخاص الذي يميز به الكلام من الصمت.
وإن ارتباطها بالفاصلة الموسيقية للقافية المتلاحمة مع الحال النفسية للشاعر وهو يعزف على انغام بنائه الموسيقي في موضوع العتاب والمعاناة الذاتية التي تحتاج إلى النغم والرنين العاليين لتشكل جزءا من الوحدة الموسيقية الشعرية، وهي أصوات ذات قيمة تعبيرية تحقق التأثير المطلوب في السامع، ومنها ما قاله الشاعر:
كنـــا وكنـــا وكـان الحـــب يجمعنـــــا
حتى امتهنـت طريقــــا ســـار للســـقم
ونفسية للشاعر التي أثرت النص بالدلالة الوجدانية في حين انخراط الشاعر مع مديات الإيقاع الواسعة والمنفتحة والشديدة المرونة، وقد أتى بتشكيل صوتي متتابع وسريع ، وقد حقق غنىً في الإيقاع، بنفس واحد والوقوف على قافيته ولذلك أميل الى القول بأن الايقاع هنا قد تموسق بوتر ينبض داخل النص وفق مستويات التقبّل لدى الشاعر ووفق حساسيته الفكرية والنفسية، وإن العناصر اللغوية التي تتشكل منها هذه الأبيات تحظى من ثنائية رائعة في علاقة انسجام ووئام بما لاتحظى في أوقات عادية وهو ينشد بث الفكرة التي يعالجها الموضوع ضمن الإيقاع المنجز فيحقق غنىً دلالياً أيضا.
أو أنــك البــدر قــد ضــاعت ملامحــه
بين الغيـوم وضاع النـور فــي الظلــم
الله الله كم لهذين البيتين من دفق وجعٍ موسيقيٍّ يجمع جميع الأصوات في صوتٍ واحد حيث الجناس الوارد بين كلمتي البدر حين تضيع ملامحه بين الغيوم وضياع نوره بين الظلمة.
يليه في تدفق الجرس المبلل بالموج الهادي ثم ينقلب الى ايقاعٍ صاخب بفعل الآتي المجهول.
فأن البنية الشعرية لاتبدو في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ، بل إنها تكشف وتجسد بهذا الإيقاع خلقًا جديدًا متمازجًا بالفكر واللغة والرّموز والصّور والرّوح.
ثم يعود لتنظيمها، في البيت الآتي بعده وهلم جرّا؛ لأن هذه المقومات الشعرية ممتدة إلى آخر القصيدة، أو المقطوعة بنظام فني متلاحم ينساق الشاعر وراءه ليشكل خطا لابداعه الشعري لا خيار له في سواه. وإن توزيع الكلام في القصيدة الميمية بهذه الصورة هو نتيجة حتمية لطبيعة الأوزان التي تَنْظِمُه؛ مما يجعلنا نقول، انها إيقاعية مرئية، وهي إحدى السمات العفوية للإيقاع المرئي بامتياز.
وأصبــح اليــوم جـدرانــــا مشـاكســة
وكان عـرســـا حفيــــا رائــق النغــــم
قوة الإيقاع تحققت بفضل ترديد موسيقى القافية والتي طبعت بطابع الدلالة والنغم في بناء العمل الشعري وخلقت ششعوراً ذا وقع جميل لدى السامع لاسيما وأن المعنى المطروق في البيت يدل عليه.
فاتبــع خطــاي فـدرب العمــر مُنحــدر
ومــــــا تبقــــى إذا راقبــــت للقمــم
اهتم الشاعر وسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة سواء أكانت لفظا، أم عبارة، أم معنى وأفصح عن نفسيته ولفت سمع المتلقي له، وهذه الترجيعات للوحدة الصوتية ترتبط بالدلالة.
وقد تَقصُر مقاييسُنا العلمية عن تحديد سرِّ الجمال فيه، وهذا القصور يبدو بصفة خاصة في الجمال الداخلي في الأسلوب الذي يعتمد على طريقة رصْف الكلمات بعضها إلى بعض؛ لأن وضْع الكلمة أو العبارة كثيرًا ما يُوحي بطرافة دقيقة، أو يُثير شعورًا بالجمال.
وتكون الغاية منها زيادة القيمة الإيقاعية وأعطى نغما مضافا للبيت ومن ثم للقصيدة من خلال اللفظ، أو العبارة، أو المعنى وهذا يرتبط بالإيقاع، ومن هذين الأمرين يحقق التكرار وظيفتين دلالية وإيقاعية.
ثم يأتي بالقرار بعد أن استعرض الشاعر كل الوقفات الإيقاعية والتي لها صدى ووقع على النفس الداخلية له أو ليبين عذره في جرس القاضي فيقول:
خلاصة الظواهر الإيقاعية: هي وحدة احساس الشاعر مؤكدة في موسيقى الخطاب الشعري باللفظ أو بالعبارة أو بالمعنى الذي شكل الوحدات الترجيعية والتي اعترت الشاعر ساعة ابداعه للعمل الشعري، وهو يلجأ إليها بحسه الفني لاقامة الوزن، أو لتقوية الجرس الإيقاعي للقافية التي يشترك المتلقي في توقيعها، مع تأكيد وحدة الصورة لإيضاح الدلالة وزيادتها على ان هذا الترجيع اللفظي أو التركيبي أو المترادف يخضع لطبيعة سياق النص الشعري.
القصيدة
عض الأصــابع , ألقِ الروح في النَّدم
ما عـــاد يجــدي أنيـن الحـرف والقلـم
أودعــت خلفــك بحـــراً لا حــدود لـــه
ثم انثنيــت تــدسُّ السُّــم فـــي الدَّســم
كل التقدير والامتنان الى عملاقنا الكبير اخي شاكر السلمان على تفضله واختيار احد نصوصي
لقراءته الواعية التي منحت النص سبلا وفتح لوابات للتنص للولوج اليه من خلالها والتي اثمرت
صورا ومعان زادت من قيمة النص وتولدت من خلاله معان وصور ما كانت ليراها المتابع الا
من خلال هذه القراءة الواعية وما حملت
كل الامتنان مرة اخرى وليس اخير لك ايها الحبيب وما وهبت النص من روحك
ب اقات فرح وياسمين لقلبك
كل التقدير والامتنان الى عملاقنا الكبير اخي شاكر السلمان على تفضله واختيار احد نصوصي
لقراءته الواعية التي منحت النص سبلا وفتح لوابات للتنص للولوج اليه من خلالها والتي اثمرت
صورا ومعان زادت من قيمة النص وتولدت من خلاله معان وصور ما كانت ليراها المتابع الا
من خلال هذه القراءة الواعية وما حملت
كل الامتنان مرة اخرى وليس اخير لك ايها الحبيب وما وهبت النص من روحك
ب اقات فرح وياسمين لقلبك
الإيقاع في قصيدة (عض الأصابع)
العرض العادي
المواضيع المتشابهه
