ملامح قصيدة (النسر)
لما كانت سوريا غائصة في ذلّ الاستعار الفرنسي واستعباده ، ولما كان الشاعر عمر أبو ريشة([1]) على هذا القدر من الإحساس الدافق بالعروبة والإسلام ، وهذا الالتحام الشديد بأمّته وتاريخها وطموحها ، مستشعراً آلامها وآمالها ، بل هي تنبض حيّة في نفسه ، وتؤرّقه أحياناً ؛ جاءت هذه القصيدة الثائرة الحادة ذات الزخم العالي من الكبرياء ، مؤكّدة أن هذه الأمة لن تعضد شوكتها الأحداث ، ولن يُقصّ لها جناح ، بل لن تلين وتخضع مهما عصفت بها الأيام ، وتكالبت عليها قوى اللئام .
ويصرخ الشاعر فيها من أعماق نفسه ، ويصيح بالحرية وبالطموح والمطالب الإنسانية السامية ، وترتفع نبرته في موجة تلو أخرى ؛ مما يعكس ضجره وجزعه ، لكن هذا لا يفضي به إلى تشاؤم قائم([2])، وهي قصيدة رمزية الموضوع ، أسماها (النسر) ، يرمز فيها بالنسر - في شيخوخته - إلى العزة الذاتية التي تأبى أن تقضي في مهاوي الحضيض ، فتنهض من شيخوختها نهضة أخيرة تحلّق في سماواتها القديمة ، ثم تهوي على ملاعبها الأولى فوق القمم بدل أن تموت في وهدة السفوح .
والقصيدة تتضمن طرفين متناقضين : ضعف البدن ، وعزة الهمة ، فكان طبيعياً أن يستدعي كلّ طرف ما يتصل به من أخيلة وصور . لكن التداعي هنا ليس تداعي ألفاظ ، بل تداعي معانٍ يجلب بعضها بعضاً ، ويرتبط بعضها ببعض ، فالسفح يرتبط بالجراح والكبرياء الدامي وبغاث الطير ، على حين تستدعي القمة صور الآفاق الرحبة والنجوم العالية والأجنحة الخفاقة . وما دامت الصورة مركبة على هذا النحو من جانبين متقابلين ، فلا بدّ أن يجسم الشاعر كلاًّ من هذين الجانبين حتى تكون المقابلة قادرة على إبراز تلك الانطلاقة الأخيرة للنسر بعد أن أدرك ما بين ماضيه من خلافٍ رهيب .
وفي القصيدة مزاوجة ناجحة بين إيقاع الشعر القديم وطرافة المعجم الشعري وحداثة الصور والمجاز([3])..
والقارئ حينما يتعمق في قراءة ملامح هذه القصيدة يشعر بعاطفة الشاعر القوية الصادقة التي تأخذه إلى قلق الشاعر نفسه ، وإلى ضيقه وضجره وما يقاسيه من آلام نحو أمّته ، وما تكتنفه من آمال محزنة لا يقرّ لها قرار ، فانظر إليه وهو يقول :
وبين جنبيه آمالٌ مبعثرةٌ
تكاد لولا بقايا الصبر تنتحر([4])
ثم كيف لا يشعر القارئ بهذا ولا تنصهر نفسه مع نفس الشاعر ، ويقدر فيه هذه الشاعرية وهذا الدفق العاطفي وهذا الاحتراق الداخلي على أمته وهو يستحضر قوله :
نجيك اليوم من أزرى الزمان به
وردّه عن مدى آفاقه الكبر([5])
وإذا كان الشاعر قد تضيق به الدروب كما يقول :
كلما أوغلت ركائبنا ضاق
على زحمة الدروب مدانا([6])
فإنه هو نفسه الذي يقول :
قد ترف الحياة بعد ذبولٍ
ويلين الزمان بعد جفاء([7])
([1]) ولد عمر أبو ريشة في منبج ؛ إحدى مدن سوريا ، من أسرة كان لها في عهد العثمانيين شأن ، انتقل إلى حلب ، وتعلّم في مدارسها الابتدائية ، ثم انتقل إلى الجامعة في بيروت . ذهب إلى باريس ليعيش أجواء الأدب الفرنسي ، لكنه سرعان ما عاد إلى حلب عام 1932م ليشترك في الحركة الوطنية في سوريا أيام الاحتلال الفرنسي . تولّى عدّة مناصب ، كسفير سوريا في عدّة دول .
([2]) دراسات في الشعر العربي المعاصر ، شوقي ضيف ، ص239 .
([3]) الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر ، ص359 .
([4]) ديوانه ، ص75 .
([5]) المرجع السابق ، ص75 .
([6]) المرجع السابق ، ص467 .
([7]) المرجع السابق ، ص515 .