رائحة المطر
سمعت طرقاً على الباب يبدد عزلتها،همست بصوت مرتجف..
من؟؟ولما لم يجب احد،فتحت الباب بحذر،
كانت نسمة هواء باردة وهي التي حركت مزلاج الباب قليلا
فتوهمت بانه طرق على الباب،هذا ما راودها ،وكان هناك
رذاذ مطر خفيف بلل وجنتيها حين اخرجت
رأسها قليلاً لترى ان كان احدا في الشارع،كان الشارع خالياً
الا من رجلاً اسند ظهره لشجرة متيبسة على ناصيته لم تتبين
ملامحه.
عادت واغلقت الباب وراحت تكمل قراءة رواية غابرييل (مئة
عام من العزلة)،لم تكمل ما بدئته حتى سمعت ذات الطرق،يا للرياح التي لا تهدء.
بدء الجو يبرد قليلا فلا بد من اشعال المدفأة،شعرت بتسرب
الدفء اليها كما يتسرب الماء في الاخاديد المتيبسة،ارخت
جسمها قليلا،جالت بنظرها في ارجاء الغرفة،كل شيء على
حاله منذ ان جاء خبر نعيه بسقوط طائرته في البحر،كانت
تمني النفس بنظرة اخيرة على وجهه ،الا انهم اخبروها فقدوا
الامل بنجاة اي من الطياريين او جثمانهم.
لا تدري لماذا اليوم تعاودها الصورة ومضى اكثر من ثلاثين عاما
على الحادثة،وبقيت تجتر ذكرياتها معه،وابقت غرفة نومها على
حالها،تنظفها كل يوم وترتب سرير نومها كأنها على
موعد المساء كعادتها حين يكون في اجازته.
عاد الطرق من جديد ولكن هذه المرة اكثر حدة،ربما الريح قد
اشتدت هكذا تمتمت مع نفسها،ولكن الطرق اخذ في الازدياد
نهضت مرتبكة فلا احد يزورها منذ ان سافرت اختها وبعد وفاة
امها،الا عامل النظافة والبقال وتعلم ان موعدهما لم يحن،وهي
في زحمة افكارها ،ازداد الطرق ،نهضت وفي داخلها شيء من
الخوف،فالشمس توشك على الغروب،وفي مثل هذا الوقت
الشوارع خالية،جمعت قواها وحاولت ان تكون رابطة الجأش
وفتحت الباب،كان يقف على عتبة الباب رجل وقد بلله المطر
رغم المعطف المطري الذي يرتديه مغطيا جسمه ورأسه،كانت
عيناه تنظران اليها دون ان يرف جفنها وهو يضع يديه في جيبه
ومن طول قامته عرفت انه ذات الرجل الذي كان يقف على ناصية
الشارع،وفي ذروة دهشتها والتي جعلتها لا تقوي على الكلام
سمعت صوتاً اجش متعب ..سيدتي اني ارتجف من البرد هلا
سمحتي لي ببعض الراحة،نظرت اليه وهي تدقق في قسمات
وجهه ،لم تكن غريبة هذه الملامح عن في مخيلتها،وراحت
وهي متسمرة في مكانها تبحث في ذاكرتها لكنها لم تفلح ففي
كل زاوية تجد ملامحه تتداخل بباقي ملامح من في الذاكرة،
بدء الخوف يسري في اوصالها،وشعر بما يجول بخاطرها
فنزع المعطف المطري عنه وهو يقول لها..سيدتي اعلم انك
خائفة فانا رجلا غريب بالنسبة اليك ولكن كما ترين ليست
هيئتي كما راودتك نفسك،نظرت اليه ،كان طويل القامة تدل
هيئته على الوقار وملامح وجهه تدعوا الى الأطمئنان الا ذاك
البريق في عينيه الذي يوحي بنظرة مجهولة .
استدارت بدون ان تكلمه وتركت الباب مفتوح مما اوحت اليه
بقبول استظافته،جلس قرب المدفأة وراح يفرك يديه ليدع الحرارة
تسري في جسده المتعب بينما راحت هي تهيء فنجان من القهوة
ليبدد شيء من الارتباك والخوف لديها مما يجعلها امامه متماسكة
وهي تقوم بواجب الضيافة،وعندما عادت وجدته قد غرق في نوم
عميق.
نومه طمأنها وغطته بملائة قريبة منها،وذهبت لتغفو قليلاً.
استيقظت فزعة ،لم تزل الرواية ممسكة بها ،رفعتها قليلا
ونظرت لغلافها وعليه صورة غابرييل،سرت في جسدها
رعشة غريبة..يا الهي هو ذات الرجل،اسرعت لمكانه
لم تجد احد،وفنجان القهوة على حاله،اسرعت للباب
وجدت مزلاجه على حاله،اسرعت الى دولاب ملابسها
اخرجت معطفها المطري وارتدته ووضعت الرواية في
رف الكتب المقروءة وخرجت ليبللها الرذاذ وتشم النسيم
معفّر برائحة المطر.
قصي المحمود\15-7-2014