الغريم
قالت الجدّة : زعموا في ولاية بعيدة ، وفي دهرٍ سلف ، أن الوالي انتشى وقال : فلنشرب نخب الانتصار .
نهدأ جميعاً ، نلتفّ حولها ، ونصغي للحكاية ، فتتابع الجدّة:طفحت كؤوس الندامى ولبّت النداء ، بعد أن امتلأت البطون بأطايب الطعام ، ورفع غندور من الغلمان الستار ، فعزفت الألحان ، وأشرقت القاعة بوجوه القيان … كُرِعت الخمرة على أنغام رقصة لجوارٍ جئن من كشمير وقندهار ، بلغن البدور في الحسن والكمال ، لديهن من الفنون ما يثلج الفؤاد ، ويتطيبن بعطر يُسكر الألباب ، يلبسن شفوفاً يبرز المفاتن ، ويدغدغ الغرائز .
ثمل الندامى ، دارت الرؤوس مع الكؤوس ، وتفوّهت بأقاويل رخيصة حتى دبّ الوهن في المفاصل ، وأثقل الأجفان…
يشعر الوالي بالفرح ، طابت نفسه ، وقرّت عينه، فرجاله جابوا الآفاق، مشطوا الضياع ، سبرت عيونهم أصغر الأكواخ ، كشفوا الأسرار ، وباتت تخشى بطشهم الديار ،
أرعبوا الكبير والصغير، خاف منهم القريب ، وهابهم البعيد ، نالوا الأتاوة من الأرامل والأيتام، ومن الباحثين عن كسرة خبز تقذفها القصور فتشوا ساري الليل وسابل النهار ، فجوا لحاء الشجر ، وأحشاء الطوب الأحمر ، وكانوا على استعداد لنبش المقابر إنْ وشى بها أحد .
أعانه كبار التجار ، ففتح أمامهم دروب الإثراء ، ومدّ شيخهم بقوافل تتاجر بقوت العباد .
دعا له رجال الدين في المعابد ، فضاعف لهم الهبات ، وخصص لهم الخدم والحشم .
وسكت القضاة أمام الخلع والهدايا ، صدقوا شاهد الزور والشاهد المأجور ، ولم ينظروا بعدلٍ في مظالم العامة ، وفرّق بين العشائر، فضَعُفت ورضخت …
وهب الأملاك للقادة والأعيان،ولم يبخل على أعوانه الذين أرسوا دعائم حكمه، ودبروا مكيدة أطاحت بالوالي السابق ومن والاه،وسيّر الدروب بالزمرد والياقوت
للسلطان .
أغرق مادحيه بالنعم ، وادخر ما فاض من خزائنه للنوائب، ولم يهتم حين رفعت العامة أيديها بالتضرع والدعاء ليصرف الإله عنها الجوع والظلم والبلاء ، ويردّ من فرّ
بجلده إلى الأهل والأحباب .
وسكن للنوم سعيداً ، فقد ملك العبيد والزرع والضرع والمال والجواهر وعساكر غبارها يطمر البلاد … وامتدّت أحلامه إلى الولايات المجاورة ، سيبسط نفوذه عليها ، ويفعل بها ما يشاء، حالما يحين الوقت المناسب ، ويُتخم خزائنه ، حينها يفكر في الإنجاب ، ويكون ولده والي الولاة ، إنْ زلزلت الأرض يوقفها بخبطة من قدمه ، وتتكوّم النجوم تحت قدميه إنْ أمرها بذلك ، ويكون عزّه بلا زوال وبقاؤه بلا فناء …
وفي منتصف الليل ، وخلال نومه العميق رأى رجلاً طويل القامة، أفطح الأنف ، في خده الأيمن ندبة زرقاء، يتقدّم بسيفه المسلول يريد قتله ، تبهره المباغتة فهو سيد الولاية، ولا يوجد في الرعية من يرفع عينيه نحوه !
يسأله بجرأة محنّطة : من أنت ؟!.
ولماذا تشهر سيفك ؟!…
لا يجيب الرجل ، تبقى رأسه مخشوشبة ، يهمهم الوالي:
سمات هذا الرجل مألوفة لديّ ، ونَفَسه ليس غريباً عليّ، وسيفه بقبضته المذهبة قريباً إليّ … لقد رأيته ، ولكن أين ؟.
يمضي الرجل نحوه ، وفي وجهه علامات الجد والحزم، فيفزع الوالي ، ينتفض قائلاً :
قفْ في مكانك ، فأنت تجابه الوالي يا هذا .
يقهقه الرجل :
لن توقف نملة ، فأنت الآن بلا سلطان .
يصرخ الوالي مستنجداً ، يستيقظ ، يلعن هذا الحلم الكابوسي ، ويهجره الكرى حتى الصباح … ومارس مهامه في النهار ، أمر ونهى ، عزل وعيّن ، عاقب وكافأ ، وكنز أثقالاً جديدة من الذهب .
وعند المساء سهر كعادته ، عقد المجالس ، عاشر الحسان ، وجرع من الصهباء بعد شِواء الضأن ، ونام هانئ البال … فتكرر الحلم ، وبالتفاصيل نفسها ففزّ ، وهو يتخيّل أشباحاً إنسية وجنية تتراقص حوله هازئة ، وجافاه النوم رغم المهدئات والمنوّمات التي وفّرها له أطباء القصر ، واستقبل النهار مرهقاً بهمهمة وعينين محمرتين ، وقلب خائف، وجوانح هلعة ، وذهن نهشه اختلاط الأمور، فلم يعد يميّز ما حدث ، هل هو حلم أم حقيقة ؟ وإنْ كان نبوءة ، أو رؤيا صادقة، أيقتل في فراشه بلا معارك وقتال ؟!.
وجدّد أجهزة الحماية والإنذار لتبعد عنه الخطر القادم ، واختار مراقباً يثق به، كلّفه بالسهر عند باب حجرته ، وأصدر أمره بأنْ تدخل الرعية إلى المهاجع مبكّرة فالليل خُلِق للسكينة والسبات ، والنهار خُلِق للحركة والمعاش … ونام بعد أنْ أجّل مجالس السمر ، ودنا منه الاطمئنان والرقاد الطويل ، فالمراقب من خاصته ، ومن خيرة الشجعان ، يتربّص حوله متشحاً بسلاحه يسترق السمع ، يرتدي بزّة الميدان ، ويتحفّز للنزال ، يرصد ما هو ساكن أو متحرك حول باب الحجرة ، وأبواب القصر مغلقة ، والجند تطوّق الأسوار ، والعسس تلتقط الأخبار ، ولا يعكر الهدوء سوى صوت الريح المشبعة بالرطوبة والنعاس .
وفي منتصف الليل ، وخلال نومه العميق تكرر الحلم نفسه، وبالتفاصيل نفسها ، ففزّ مذعوراً : أيها المراقب .
وثب المراقب المتيقظ ناطقاً : أمرك مولاي .
ـ أكنت نائماً ؟
ـ لا .
ـ إذاً رأيت غريمي ، ولم تتصرف .
ـ لم يمر كائن أمامي ، أقسم على ذلك يا مولاي.
ـ أنت كاذب .
وركله الوالي على قفاه .
اتهمه بالتآمر ، وأمر بسجنه واستبداله في الحال .
وترك مفسرو الأحلام والمنجمون الفُرش الناعمة والأحضان الدافئة، وحضروا بين يديه .
تحدّث عن حلمه وهو يرتجف ، فلم ينجح في جعل حركاته عادية .
استغربوا ، فصفات رجل الحلم تنطبق على الوالي نفسه، أرادوا إعلامه ، خافوا غضبه ، ففسروا الحلم تفسيرات لم يقنعْ بها ، فسخر منهم قائلاً :
كنت أظن أنّ عقولكم تكشف الغيب ، وتقرأ المجهول ، يبدو أنّ حياة النعيم حجّرت عقولكم فامتنعت عن التفكير .
وأمهلهم سويعات لتحديد الخطر الذي يحسّ به ، وإلاّ فمصيرهم كمصير المراقب .
فتشاورا ، ربطوا بين تكرر الرؤيا وصدقها ، فالرؤيا الصادقة كرامة للصالحين ، وإنْ كذبوا رؤياه سيدفنهم أحياء … فأجمعوا على وجود رجل في الولاية يحمل الصفات التي ذكرها الوالي ، يريد قتله والاستيلاء على مركزه .
ارتاح الوالي لهذا التفسير ، فهو يُرضي ظنونه ، وأحضر قائد الجند :
أيها القائد ، الولاية في خطر .
ـ عفوك مولاي ، تقارير رجالنا لم تسجل حادثة تزعزع الأمان !.
بعصبية أطلعه على المستجدات .
استغرب القائد ، فهو المتتبع لسكان الولاية ، من أهالي الوبر إلى أهالي المدر والمطارد للخارجين على القانون من متمردين ولصوص وشذاذ ورُعاع وقطّاع طرق وفارين من الجندية ، ولم يجد رجلاً بالصفات المذكورة سوى الوالي نفسه، لكنه خشي أن يخبره بما يجول في خاطره ، وهو العارف بغلظة طباعه ، وهيجانه لأتفه الأسباب ، سيسيء الظن به ، ويعزله .
وجمع القائد الأعوان والأعيان لتعبئة الطاقات . وفوجئت الجند بصفات الغريم ، لكنها آثرت الصمت والسلامة ، ووعدت بتمزيق الغريم إرباً إرباً .
ودارت تفتش عنه ، تسأل عابري السبيل ، تتفحّص الوجوه، تراقب المعابر والوافدين ، سلكت سبل التوبيخ والمراوغة والتعنيف مع العامة … انتهكت المحرّمات ، لم تفرّق بين مومس وبتول ، وبين حبلى ومرضعة ، وعاثت فساداً .
بألم ابتلعت العامة مرارة الإهانة .
ترحّمت على الوالي السابق ، ودعت له بطيب الثرى وسعة المغفرة ، وجالت في خلدها ظنون حول تلك الصفات ، إنْ أظهرتها سلخت الجند جلدها ، وقد خبرت قسوتها أيام السفربرلك العصيبة وحملات السوق إلى الجندية والتفتيش عن الميرة وتجميع حصص الوالي …عادت الجند منكّسة البيارق .
بدت عليها علامات الجهد والإعياء .
غضب القائد ، جرّد معاونيه من النياشين والأوسمة ، لم يبيضوا وجهه ، صرخ بهم :
كنت أظن أنّكم أبصر من هدهد .
بلغ الوالي من الغضب عتياً . اهتز كمحمومٍ يصاول رجفة، وقال:
لبس الحرير واللعب بالدنانير قضى على مهارتكم الحربية .
وأمر بقطع أرزاق الجند ، وأعلن عن جائزة لمن يجد غريمه ، أكياس تتكدّس فيها الليرات الذهبية العثمانية .
دار مناديه يبشّر بها في الساحات والأزقة والأسواق !
خطبت الأعيان في العامة ، تحمّست حتى بحّ صوتها ، لم ينتقل من حماسها للعامة سوى القليل القليل …
استهلّت وجوه العامة ، وتعالت في صدورها خفقات تبشّر بزوال الكروب .
ونام الوالي غاضباً ، وتكرر الحلم ، ففزّ صائحاً ، يتفصّد العرق من جبينه ، وعلى صوته برق سلاح المراقب ، وانتصب أمامه :
أين الغريم يا مولاي ؟
ـ إذاً رأيته أيها المراقب .
ـ لا .
ـ كنت شارداً أيها السافل .
ـ عفوك مولاي لم أشردْ ولم أغفل .
وصفعه ، وألحقه بسابقه .
في اجتماع طارئ، جمع أعوانه، والحاجة إلى النوم تنهكه، تفضح قوته، فلم تكن قوته إلاّ قشراً يغلّف باطنه المهزوز، أمطرالاجتماع عجزاً وخيبة، فغيّرالجائزة ،وقال:
سأعين من يمسك غريمي خازناً للمال والغِلال .
تشحن مخاوفه بخوف جديد !
أيقن أنّ تلك الأحداث طلق لمخاضٍ آتٍ بجريمة عاجلة، وامتزجت في ذهنه خيالات ورؤى تدفعه إلى مسالك الجنون .
وفي كهف مهجور انتظمت لقاءات ، قال المنظّم فيها لشباب سئموا من حياة العفونة والركود :
ابشروا ، انهياره سيختصر المراحل .
وقيل الكثير الكثير …
وفي جوٍ مصحوب بالترقب والخوف جاء المساء ، اقترب موعد الحلم ، ارتبك الوالي بخوفٍ متعاظم ، فالمنايا تترصّده !.
ربما هو عمل سحر ، ولن يفلَّ السحر إلاّ السحر .
وملأ السحرة المكان ، أعملوا قدراتهم ، لم يجدوا أثراً لعفريت أو لسحر .
وبخّر رجال الدين غرف القصر ، واستعاذوا من شر ما في الأرض، وما يخرج منها ومن شر ما يدبّ عليها .
أحاط مخدعه بالحرس ، يرأسهم آمر يوده ، خوّله بقطع عنق من يجده يحوم حوله .
وخمدت حياة اللهو في القصر ، فلا جوارٍ ولا قيان ، ولا شراب ولا لذيذ طعام ، لا أفراح ولا ساعات مِلاح، الأضواء وحدها ساطعة لتفضح النشاز .
الأرق سيف بتّار يُشحذ أمامه ، يجعله يراجع سنيناً مضت بمآسٍ ودمٍ لترك وبدو وأرمن ، نهب وسطو وتواريخ مرعبة ، سواد ومنكرات قرّبته من السلطان وهزت ملائكة السماء .
ارتجف ، وقرر أن يفعل شيئاً في الصباح .
بيأس تساءلت زوجته ، وهي ترى شحوبه :
أين دواء هذا الداء ؟!
يصمت الأطباء ، وتجزم عيونهم :
مرض الوهم ليس له دواء .
وفي منتصف الليل ، تكرر الحلم . يقترب الرجل شاهراً سيفه ، يتشجع الوالي يسأله :
من أنت ؟!.
يقهقه الرجل بسخرية :
قَهْ قَهْ قَهْ …
ويرعد :
الآثام شوّشت دماغك ، فنسيتني ، لن أسكت عنك بعد الآن .
ويتقدم لفصل رأسه برائحة نتنة ، يتوسّل الوالي خائفاً :
دعْ حياتي ، وخذْ ملكي كله .
يشتعل الرجل غضباً ، يضع السيف على عنق الوالي ، تصميم هائج مقابل استسلام خانع في لحظة تداهرت ، يبتلع الوالي فيها لعابه ، يحاول الكلام ، يضغط السيف على عنقه أكثر ، تضيق أنفاسه ، فيفزّ من نومه مذعوراً ، يترك مخدعه ، يخرج إلى البهو ، تواجهه مرآة القصر الكبيرة ، يرى فيها رجلاً بديناً طويل القامة، أفطح الأنف ، على خده الأيمن ندبة زرقاء ، يتخذ الوالي موقع دفاع عن النفس ، ويحدّق فيه ، يتخذ الرجل الموقع نفسه ، ويحدّق في الوالي ، يفتح الوالي فمه مستنجداً ، يفتح الرجل فمه ، فيبتعد الوالي خشية تلقي ضربة منه ، يصرخ:
يا آمر الحرس ، الغريم هنا.
وبين غمضة عين وأختها يترك آمر الحرس مكمنه ، يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى :
إنها مؤامرة ، ولن يشبعها رأس الوالي ، ستلتهم رؤوس علية القوم !
وصرخ بالحرس : الغريم في البهو ، فاقتلوه .
يهرع الحرس بين نائم ومستيقظ ، يقتحم البهو في بربرة رعناء ، يجد رجلاً بالصفات التي ذكرها الآمر ، ينقضّ عليه بسرعة كلمح البرق ، ويخرج معلناً للآمر :
أرديناه قتيلاً يا سيدي .
يهدأ الآمر ، يتقدّم نحو مكان القتيل ، يجده مزقاً وأشلاء، رؤيتها تحقن الناظر بالألم ، يرسل الخبر إلى قائد الجند مفتخراً.
وهمس حارس في أذن رفيقه ، والشك يتشعب في داخله:
أرأيت الشبه الكبير بين الوالي والغريم .
يجيبه بقناعة مفتعلة :
يخلق أربعين من الشبه .
يصمتان لمجيء قائد الجند ، ودخوله البهو مرفوع الرأس، يسرع ليبشّر الوالي بما جرى ، لم يجد الوالي .
بحث عنه في غرف و سراديب وممرات القصر ، لم يجده !
أعلن اختفاءه ، نصب نفسه والياً ، ريثما يعود الوالي المفقود .
وتوقفت الجدّة عن الكلام ، قلنا بصوت واحد :
وماذا جرى بعد أيتها الجدّة ؟!.
قالت الجدّة بتثاؤب :
سأسكت عن الكلام ، وأترككم للنوم والأحلام .
وهجعنا نحاول حل ألغاز الحكاية .