كوجين في موكب الموت
جوتيار تمر/ كوردستان
في المساء تدب الحياة بشكل جميل في كل شرايين القرى، حيث الطبيعة الآسرة تبعث بسحرها الأرجواني الروح من جهة، والغبار المتصاعد من الطرق الذي يعانق تلك الإشعاعات الحمراء بسبب عودة المواشي والأغنام من جهة أخرى، يرسمان لوحة سيريالية لاحدود لمنطقها.. وكوجين النضرة التي لم تزل في ربيعها الحادي عشر كلما هطل المساء على القرية تخرج الى السطح لتشاهد تلك المناظر الخلابة وعلى الرغم من كونها مصابة بالربو إلا أنها لاتقاوم المشهد فتصر على الصعود برفقة والدتها التي لاتستمع بالمشاهد بقدر ما تستمع من مشاهدتها لإبنتها وهي فرحة ومرتاحة .. على الرغم من قلقها الدائم على إبنتها من الغبار والمرض المفاجئ.
في إحدى مساءات ربيعها الأخير كانت هي برفقة إبنة عمها رانية التي تكبرها بثلاث سنوات على السطح تشاهدن مرور الأبقار في الطريق الضيق بجانب بيتهم، ومن بعيد كانت الأغنام تسير بانتظام يتقدمهم راعي مع كلبه الغريب بلونه حيث لا هو بُني ولا أسود إنما مزيج بينهما، والغبار كالعادة يعانق السماء بتفاصيلها، وفجأة خرق ذلك المشهد ضجيج المواشي وهي تطلق بعنان صراخها في الارجاء وكأنها تنذر بشيء ما آت من المجهول غير المفهوم..ارتبكت رانية وكأنها شعرت وسمعت أصوات غير التي آلفتها من قبل في تلك الأوقات..ضمت رأس كوجين الى صدرها..قالت كوجين ماذا يحدث رانية لماذا الحيوانات تركض هكذا بدون وجهة ولماذا هذه الفوضى تعم كل مكان..قالت رانية دعينا ننزل بسرعة حبيبتي فالحيوانات تخاف الأصوات الغريبة عليها..وما أسمعه أنا غريب علي أيضا وبث فيَّ الرعب فكيف هي التي لاتعي شيئاً..وهما ينزلان إذ بأم كوجين تصعد بسرعة وتأخذهما إلى مكان يسّمونه في القرى ملجأ وهو حفرة تحت الارض تم حفرها باتقان ومجهز بسلم خشبي يساعدهم على النزول والصعود وفوهة الجفرة يتم سدها ببعض أغصان الشجر والقصب أحيانا وتغطى تلك الاغصان والقصب بقطعة قماس أو بلاستيك ومن ثم يغطى بطبقة سميكة من التراب ومع أنه يبدو هكذا ثقيلا وغير قابل للحركة إلا أنهم وبطريقة ما تعودوا على رفعه وإغلاقه أثناء الحاجة.. كانت كوجين قد أصيبت بنوبة وأصبح تنفسها صعبا قالت رانية ليس الغبار السبب أظنه ذلك الدخان الذي وجدته بعدما صدر ذلك الصوت.
قالت أمها نعم بنيتي عيناك أيضا حمراوين ...ردت رانية لاتقلقي عليَّ فقط لنأمل أن تكون كوجين بخير..حينها دخل والد رانية وهو يقول هل أنتم بخير ونظر إلى كوجين الطفلة اليتيمة وهي تكاد تتنفس فدمعت عيناه..ونظر إلى أمها كانت تبكي بصوت خافت وبدموع مخفية.. ورانية كانت قد ركضت إليه فضمها اإلى صدره..قال لاتخافوا لحظات وينتهي الأمر وسنخرج بعدها إلى الجبل..كان الصوت القوى هو صوت القنبلة ..أما الصوت الآخر الغريب فقد كان صوت الطائرات التي قصفت القرية بقنابل تصاعد منها الدخان الأبيض والذي أصاب أغلب أبناء القرية بحالة من الذعر والخوف.
كوجين كانت قد فقدت والدها قبل سنة..حيث دفن في العراء مع أصحابه لأنهم رفضوا اللحاق بالجيش.. فعاشت هي وأمها تحت رعاية عمها..الآخر الذي كان معاقاً وعاش لإبنته فقط بعدما فقد زوجته قبل أربعة عشر سنة أثناء ولادتها رانية لهذا لم يكن لكوجين وأمها غيره من يهتم بهما.
في الليل وبينما هدأت الأوضاع قليلاً صعدت أم كوجين (زينب)إلى بيتها المكون من غرفتين حيث تعيش هي وبنتها في واحدة والأخرى قد حولتها الى مخزن ومطبخ وهو بيت ترابي فقط يمنع عنهم الأمطار وبرودة الشتاء ويقيهم حر الصيف..فبدأت بجمع بعض الملابس وتجهز بعض الحاجيات الغذائية.. وما إن إنتهت هي حتى أخرج أبو رانية واسمه (بشده ر) الأطفال من الملجأ والتحقوا بباقي أفراد القرية الذين نجوا وساروا نحو الجبل القريب بالأخص إلى الكهوف لعلهم يتحصنون من الطائرات وقصفها..كانت كوجين قد عادت تتنفس قليلا إلا أنها لم تكن بوعيها تماماً لأن ذلك الدخان قد أثر عليها كثيراً فبدأت بعد مراحل من السير بالتقيؤ واحمرت عيناها بشكل حتى لم تعد ترى كما ظهرت على جسدها النقي بعض علامات الحرق..وجرى الأمر مع رانية أيضاً فنظر والد رانية إلى زينب وقال لها دع عنك الأغراض واحملي إبنتك وأنا سأحمل رانية وبعض الأغراض.. حينها سمع بشده ر صوت أحد أبناء القرية وهو يقول ساساعدكما وأنا سأحمل كوجين.. كانت الخطوات تسابق الزمن وتأمل بالوصول إلى الجبل وإلى كهف ما لعلهم يجدون بعدها علاجا للأطفال..خاصة أن الأطفال أغلبهم قد أصيبوا بنفس الأعراض حيث التقيؤ واحمرار العيون ومن ثم تدريجيا بدأوا يفقدون القابلية على الحركة..وفي منتصف الطريق نادى الشاب صديقه بشده ر أظنها لاتتنفس صرخت زينب إبنتي إبنتي ماذا حصل لها.. فالتم أهالي القرية وبدأ الصراخ وأصوات البكاء تتعالى كوجين كوجين كوجين...لكن كوجين كانت قد نعت الخراب وتركته وصعدت الى مأوى بلاشك سيكون أكثر أمانا واكثر راحة لها.. وما هي إلا لحظات حتى بدأ البكاء والصراخ يعم أغلب من كان معهم..لأنهم كانوا قد بدأوا بفقد أطفالهم..كان الكبار من شدة تعلقهم بالأطفال واهتمامهم بأمرهم قد نسوا بأن ذلك الدخان لايرحم ولايفرق بين صغير وكبير..الانفعال والمشاعر تلك أرهقتهم أيضا فبدأت الأعراض تظهر عليهم بالتتالي.. بدأت الأرواح تئن بصورة أظنها أجبرت السماء على أن تدمع..ولأن السماء من طبعها المكابرة أرسلت بزخاتها تطهر ذنب وقوفها عاجزة ومتفرجة لتلك المجزرة...بدأ المطر يهطل بغزارة..تجمدت الأجساد في أماكنها.. تلك الأجساد التي فقدت جزء منها..وبدأت تهيء مواكب موتها..أما البقية فأكملت مسيرها للجبل..مر الوقت سريعاً وفي الصباح الباكر كانت السماء لم تزل غائمة لكن المطر كان قد اكتفى..والطريق ذاك كان قد تحول الى مقبرة جماعية حيث لم يصل للجبل سوى أفراد قلائل وأغلبهم من الشباب أما الباقي فقد تحولوا إلى شواهد قبور على طريق كانت كوجين ورانية والآخرين في أيام نوروز يركضون عليه ليصلوا الى قمة الجبل للاحتفال ولم يعلموا بأنه سيكون في يوم آخر طريقاً يسير عليه موكب موتهم المنتظر.
الشاب الذي حمل كوجين صديق بشده ر واسمه اعتقد سردار كان ممن وصل الى الجبل، وعاد في الصباح ليعرف مصير صديقه وعائلته، وإذا به يصاببالدهشة ويصعق بالمشهد الذي رأه.. رانية قد وضعت رأسها على صدر أبيها الذي بدوره كانت إحدى يديه بين خصلات شعر إبنته، والأخرى ممسكة بيد كوجين وهذه الأخيرة كان رأسها في حضن أمها.. ركع الشاب ونظر الى السماء متمتماً أهكذا تكون النهايات..؟.
24/4/2003