تساقطت الأمطار بغزارة وهبت الرياح بعنف فتساقطت أوراق الأشجار ودارت في كل الاتجاهات. تعلق كيس بلاستيكي على أغصان وردة الجوري المزروعة في حوض صغير داخل حديقة البيت الأمامية. ورغم أن شباك حجرته كان مغلقا الا انه سمع صوت خشخشة الكيس وأطرافه تتراقص، كأنه يحاول عبثا أن يفلت من فخ شوكي يشده إليه.
اختلط صوت الأشياء المتطايرة في الخارج مع أصوات متنوعة من شخير مزعج داخل الغرفة ينطلق من أنوف وحناجر أولاده المتكومين على الأرضية الباردة.
وقف أمام النافذة العارية يحدق بالظلام الذي تبدده أشعة باهتة تجود بها أغصان الأشجار من آن لآخر، تسقط من قمة الجبل بعد أن أزاح ضوء البرق ستار الظلام عن بيوت بيضاء للحظات وانعكس على السياج الذي يحيط بها، واجتاح السماء التي هزها قصف الرعد وتردد صداه في أعماق الأفق البعيد.
داخله انقباض أضاف إليه مزيدا من الضيق وهو يلمح المياه تسيل بقوة من أعلى الجبل، كأنها تنبع من بيوت المستوطنة بعد أن وجدت طريقها من خلال قنوات واسعة لتصل إلى بيوت القرية وحقولها التي لم تسلم من هجمات المستوطنين المتكررة.
وتذكر ذلك المساء الخريفي عندما انحدر مئات المستوطنين من أعلى الجبل باتجاه القرية وعاثوا فيها فسادا، اقتلعوا عشرات أشجار الزيتون وسرقوا نتاج المزارعين التي تركوها تحت الأشجار بانتظار صباح اليوم التالي. وكان نصيبه منهم عين ابنه الصغير التي انطفأ نورها بفعل شظية غادرة من أسلحتهم الجبانة أثناء التصدي لهم. يشبهون إلى حد كبير سيول مياه الأمطار التي تأتي بعكس ما هيأ لها. تشارك الصيف حين يغمرهم المستوطنون بمياههم العادمة لتنشر الروائح المنتنة والأوبئة قبل أن تغزوهم أفواج نمل اسود كبير الحجم تزاحم الزواحف والحشرات الأخرى على موسم باهت انتزعت بركته.
اشتدت الريح وتفسخت بعض أغصان أشجار الحديقة واصطدم طير اسود اللون كبير الحجم فجأة بزجاج النافذة حيث يقف بصوت مدوي، فاستيقظ أطفاله دفعة واحدة واخذ أصغرهم بالبكاء. ومع زئير الرياح وقسوتها واندفاعها الجنوني المفاجئ وارتفاع منسوب المياه، أحس بأنه يخوض حربا جوية وبحرية سيخسرها بعد قليل. انفجرت أعمدة العريشة الخشبية أمام البيت بغتة وسقط جزء منها على الباب الذي طار من مكانه وأصابه بكتفه فوقع على الأرض. لكنه وقف بسرعة والتقط الصغير من يده وجرى به للخارج يزاحم الرياح، وفجأة توقف كل شيء وكأن شيئا لم يكن. توقفت الأمطار وخف هبوب الرياح الا من تيار بارد يحمل بعضا من قطرات الماء. كانت أعصابه مشدودة وصراخ أبنه الصغير يدوي عاليا. تعلق به بقية أبناءه وأشار أكبرهم ابن التاسعة بيده الى بيوت القرية البعيدة ليثير انتباه أبيه الى الأضواء المتقطعة التي بدأت تلمع من مصابيح يدوية اختلطت بصرخات وهتافات.
- سننام الليلة في العراء.
قال لنفسه وهو يشاهد اقتراب عدة أشخاص بدا عليهم الإعياء والتعب. بدأ احدهم حديثه ساخرا وهو يدندن بأغنية قديمة:
- الليلة ليلة هنا وسرور، وكبايات في صواني بتدور..
احتضن ابنه الذي توقف عن البكاء وجسده يرتجف من البرد قائلا:
- نحن ضحية من قبلنا الذين أقاموا قريتهم أسفل الوادي.
- لا فائدة من تكرار نفس الحديث بعد ما ضاع كل شيء؟ أجابه احدهم
تنهد بحسرة وهو يستذكر اليوم الذي باع فيه مختار القرية الجبل وبنيت المستوطنة وتبريره الغريب حينما قال مدافعا عن بيعه الأرض:
- المفروض أن تشكروني. كان الجبل وعرا جدا ابتلي الذين اشتروه به، مقابل مبلغ كبير من المال. والاهم من ذلك انه كان مستوطنة لنمل اسود شرس يعيث فسادا ويخرب المحاصيل ويسرق حبوب القمح والشعير.
لم يرق ذلك لأهل القرية وهم يرون المستوطنة تبتلع الأرض بلا توقف، وشراهتها لا تقف عند حد الشراء فقط،. بل تعدت الى السرقة والتزوير والتخويف والتهديد. وبدأ عقلائهم بإجراءات وقائية لمنع البيع قدر ما استطاعوا من حصر للأملاك وتسجيلها في الطابو.
لم تعد الحياة كما كانت وكأنما هي القرية الوحيدة في العالم التي تعيش تناقضا غريبا، مياهها شحيحة وسكانها يعتمدون على مياه الأمطار في شربهم وزراعتهم، الا أن المياه تغمرها، ملوثة صيفا وملغومة شتاء. لو كان بالإمكان إنشاء معمل لتكرير المياه والاستفادة منها في الري لردوا الصاع صاعين وقلبوا المعركة من الأسفل الى الأعلى.
هذه اغرب ليلة تمر عليه في حياته، حملت في طياتها المستحيلات والعجب. توقف الزمن كما توقف المطر والريح بلمح البصر. لم يصدق عندما اخبره احدهم عن ظهور طيور غريبة عن المنطقة تخرب الحقول وتأكل النباتات وهي في طور نموها. الآن يصدق كما صدق ظهور الطائر من العدم وظهور الخنازير البرية عندما واجه إحداها قبل عدة أيام. حتى الكيس البلاستيكي تحرر من سجنه ومر بجانبه مبتعدا الى الحرية. الشيء الوحيد الذي لم يقف هو سيول المياه العادمة المنحدرة من أعلى والرائحة الكريهة النفاذة التي تحملها المياه الملوثة وبيوت نمل شرس تحتل باطن الأرض.
ومع انحسار السحب التي ولت مسرعة بعد أن زرعت بذور أقزام تنبت في الوحل وخلطت الشر بالخير. تجمع أهل القرية في انتظار انسحاب عتمة الليل وزحف ضوء النهار والشمس التي قد تشرق على أمل أن تنهي الماضي الذي شكل الحاضر المؤلم وصنع مستقبلا مبهما لأجيال قد يمر عليها وقت طويل لتستوعب حجم الكارثة.
يقودهم طفل فقد عينه وأطفال يرتجفون بردا في وقت احتباسي حراري عم الكون.