[COLOR="Blue"][عند منتصف الجسر وقفت , المدينة كما هي , منظر جميل ورائع , كم كان أبي يحب أن يقف طويلا هنا , كم كان يعشق هذا المكان , النهر العاشق للمدينة يجري في منتصفها , اختار أهلها أن يكون قلبها , يقسمها قسمين , شاطئه الحزين يشكو من الإهمال طوال سنين عدة ولم يزل كما هو , لا احد ينظر إليه برأفة , لا احد يكترث ما يريده النهر وما يستحقه , لكنه لم ينطق بشفه , مرحا كما عرفته , هادئا يبدو كأهله والصخب يملئ جوفه , عاشقا مزهوا بنفسه كأبنائه , بعض من أشجار النخيل تعكس عليه ظلاله , فرحا إذا أقبلت عليه , يبادلك البسمة , كم من الوقت نحتاج لنعرف انه لم يفقد صبره , كم من الوقت نحتاج لنعطيه حقه ومن يعنيه امره, جميلا ومتجددا دوما ينشد أغانيه لا يعرفها إلا العاشق وحده , ويعرفها من امتلك حقا بصره , سررت جدا به وشعرت انه فرح , الشمس تعكس ألوانها فيه , ينقلها بأمانة كما هي , لم يطلب منها شيء , انعكست في نظري ,زاهية ألوانها , توجست ما يبوح به , وتوجست إني عرفت قدري بقدره . ربت احدهم على كتفي , لا يمكن أن تقف هنا , حقا انه مكان مرتفع وخطرا في نفس الوقت , لكنه بنفس الوقت يعطيني مساحة اكبر كي أرى ما أريد رؤيته , تقدمت خطوات , رجعت بأكثر منها للخلف ثم عزمت أمري وتقدمت أكثر .مرعبة جدا أصوات الانفجار وأصوات الطلقات النارية الكثيفة للرصاص الذي بدأ ينهمر كأنه المطر, ومزق السكينة , فزعت الطيور نحو عمق البساتين والحقول , ارتفعت أعلى في السماء متجهة حيث لا يعكر صفوها الضجيج , وارتفعت أيضا للأعلى سحب الدخان كغيمة فوق سماء المدينة , لا جدوى من البقاء في مكان مرتفع , هرعت كشحاذ يبحث عن مكان يلوذ به في ليل ممطر تحت الجسر , متعثرا بأقدامي المتثاقلة من الخوف , أقدامي التي أصبحت لا اشعر بها ولا اعرف ماذا أصابها , لا تقوى على حمل جسد ضئيل ونحيف مسافة قليلة , سيارات الإسعاف تزعق بأصواتها , ربما هي في طريقها لحمل المصابين والجرحى , أصوات عالية تطلب من الجميع التفرق وعدم الاقتراب والمكوث في أماكنهم في مكبرات الصوت , وقع أقدام مسرعة , أنفاس متقطعة ولاهثة , سيارات (همر) مسرعة جدا تقل أشخاص بملابس عسكرية متهيئين متأهبين للقتال .
فوضى عارمة وقلق يعم كل مكان , لم انتبه في البداية لأشخاص كانوا قريبين مني يحتمون من الرصاص كما أنا تحت الجسر , بعضهم يحمل السلاح , عيونهم تتحدث عن الفزع , لا يجمعنا سوى الخوف والصمت ونظرات قلقة تحمل مشاعر وأحاسيس مشتركة من هاجس خفي , متسمرين في أماكنهم , وجوههم مصفرة , كأنها وجوه الموتى , يتنفسون الصعداء كلما انخفض قليلا أصوات البنادق , ثم تعود إلى حالها كما هي. مرعب حقا هو الموت وتلك هي الحقيقة , ومرعب جدا عندما يكون جليا , وعندما تراه قريب جدا منك , وانه اقترب أكثر ,ولكن , ما أروع الموت عندما توجد قضية , قضية حقيقية .
كيف لا يعرف المرء ما يجري حوله , ما يحدث , إلا بعد فوان الأوان ؟ كيف لا يعرف انه ظل سيختفي إذا ابتعد الضوء عنه . أن ما يحدث مثل زوبعة , زوبعة يتقدمها بامتياز ولم يعلن إنها خطيئة ,مثلما هو , تنتهي بانقطاع أنفاسه , وكما هي العاصفة أيضا عندما تبدأ , تقتلع الأشجار , تفعل الخراب , تزيد الأوجاع ثم ترحل إلى حيث تختفي , وربما تبتلعها الصحراء أو يلتهمها البحر . فما اشد بؤس هذا الإنسان ,انه دائما يشعر بالضجر , لا يرى ابعد من خطواته , ساخرا , منفعلا , متكبرا , لئيما , مشاكسا , متمردا , حالما أن يحصل ما ليس له , وحده يمرح الذي لم يفقد صوابه , لم تجرفه الأمواج , ويراها كما هي الأشياء . فالمرء بإمكانه أن يفعل أي شيء حتى اشد الأمور غرابة إذا فقد صوابه , إذا أغمض عينيه ولم يسمع شدو البلابل , ولم تلامس شفتاه شفتي عاشقة ,ولم يتذوق طعم قبلة ممزوجة بالرضاب , ولم يكترث للندى المتساقط في عالم ارتفعت في الأصوات كي يصبح جميلا كامرأة , عالما مقتربا جدا من نهاية بائسة , متقلصا كالتمر حين يترك على النخلة , الرقيب وحده يفلح , ينظر بشغف الثمرة , والأوفياء لها يستحقون الغزل .
لقد امتد الزمن طويلا ونحن نقف هكذا منتصبين ينظر احدنا الآخر بهلع وكأنه لا يريد أن ينتهي , ننتظر نهاية الانفعال والسخط ونستمع للأصوات المرعبة من القذائف المتساقطة والاطلاقات النارية التي تمزق السكون . وشعرت بالعطش ولم يوجد ما اشرب , شفتاي جفت من الظمأ. إلى متى ستستمر تلك الحال ؟ وجوم وقلق , لن تهدأ النفوس إذا أمتد الغضب , ولن تهدأ إذا لم يتدخل الوصل والقي فيها الحطب , إنها ترقص من الأوجاع تسأل عن السبب , كل شيء يدعوا للريب فيها , كأنها مدينة تسكنها الأشباح فقط , تتلظى من النار , اختارت الصمت كي تدافع عن نفسها , كي لا تغرق, ولا يقال عنها ما لا تريد أن يقال فهي لم تكن يوما آثمة .وتنفست بعض من خوفي حين انخفضت كثيرا شدة الأصوات , وتنبهت لسيارة صغيرة توقفت , ترجل بعض من فيها , يبدو إنهم ظلوا الطريق أو ابتعدوا عن المكان الذي يجري في القتال , يبحثون عن مكان آمن وسط هذا الجو المشحون بالكراهية , هدأ الأمر , قال احدهم , لكن أصوات البنادق لم يزل يسمع . كنت قد تعبت جدا من السأم , من الضجر , من الانتظار كي ينقشع هذا الصخب . في كل المدن التي وطأتها قدمي لم اشعر بما شعرت به الآن , وفي كل أحلامي لم اصدق إني موجودا في خضم معركة , معركة لم اعرف دوافعها وأسبابها بعد , كم أنا أحمق , من يريد المعرفة عليه أن يتريث , ليرى ماذا سيحصل . ولكن , ماذا سأحصل ؟ المعارك كلها خاسرة ,من يخوضها ومن سيربح , فكم يكون الثمن باهظا لو تعرضت لإصابة , لقد جئت كي أرى وامرح , خنقتني العبرة , شهقت بألم , ندمت لأني اتبعت غريزة الأحمق , وندمت أكثر لأني تخطيت حدود العقل , لا بأس , كل شيء عاد كما هو ,فقد بدأت تدب الحركة شيئا فشيئا في الجوار , أصوات رجال فوق الجسر , مركبات متباعدة بين واحدة وأخرى , تقدمت بضع خطوات , بيت زامل المناع كما هو , نخيل بستانه الوارف الظلال لم يكن على عهده , البلابل التي سميت باسمه ,آه البلابل , كم تمنيت عندما كنت صغيرا أن احضى بواحد منها , صوتها الشجي لم يزل يسكن في ذاكرتي , استيقظ فجأة وغمر نفسي بهجة بعد كل هذا القلق . لم تكن معركة حقيقية حقا , ثيابي اتسخت , كان لغطا فحسب , صراع من اجل السيطرة بطريقة سمجة , لها رواسب في مخيلة الآخرين , تركها في النفوس ارث امتدت جذوره عميقا مع الزمن , لن تضمد الجراح هكذا , الجراح تنزف بغزارة منذ زمن, لا يطربها الذي وقع , لا يطربها هذا العهر . الشوارع مغطاة بالأنقاض والمركبات بأنواعها محترقة , فعلت فعلها القذائف في كل مكان وصلت إليه منذ بداية الخصام ولا أقول الحرب , الحرب نعم, فعلت فعلها القبيح عندما أعلنت ودخلت القوات الغازية بغطاء دولي , الشوارع امتلأت فجوات واسعة من القذائف المتساقطة , وتبعثرت أيضا قطع الرصيف الإسمنتية أجزاء متناثرة . كان العطش قد اشتد بيَ كثيرا , صداع شديد لا زمني , كان الخوف له سببا وربما العطش له سبب في ذلك ,عندها وقع نظري على البهو , تلك البناية التي تشبه الكوخ التي صممت لتكون مسرحا رئيسيا للمدينة ومكانا للندوات والحفلات والمهرجانات الثقافية هو ايضا طعن بقذيفة في خاصرته لم يزل يشكو جرحه , وأجزاء كثيرة منه متناثرة , اقتربت منه , كان مهملا جدا , أفرغت كل محتوياته , لم يبقى منه سوى الهيكل , تسكنه إحدى العوائل التي فقدت منزلها , ومن أجزائه المتناثرة عملت بجهد لتجعل بعضا منه مأوى وسياج يحفظ من يوجد خلفه .كانت حركة المركبات قد نشطت وازدادت حركة المارة , المسلحون اختفوا فجأة , ابتلعتهم الأرض , لا احد الآن يحمل السلاح . في الشارع الجميل الذي اعشقه بداية التقاطع , المقبل ببسمة على بناية البهو وبدايته ,حيث يمتد عميقا في قلب المدينة وشارعها الرئيسي الذي كان يسمى عكد الهوى والذي أصبح فيما بعد بشارع ألحبوبي- تيمنا بالمجاهد الكبير الشاعر محمد سعيد ألحبوبي حيث وافاه الأجل في هذه المدينة وفي بيت العضاض بعد حزن وسأم أصابه في معركة في البصرة لمواجهة الغزو البريطاني للعراق عام 1914 ,- امتلأت عيوني دموع الفرح , لامست يدي جدار المدرسة الملتصقة بالقسم الداخلي للبنات , غمر كل جسدي المرح , وددت لو اصرخ , لو ارقص , شربت بعض الماء من بائع على الرصيف رغم قذارة الكأس جرعة واحدة . رائحة الشارع بعثت البهجة في نفسي رغم الإهمال والوجع والخراب الذي لحقه , لم يزل كما هو , لا احد يستطيع أن ينكر كم يملك القلب له من وجد , وكم طوته أقدامنا فرحا نلهث في صبانا , نلهو ونلعب , وكم وقعت دفاترنا في وحله أيام الدراسة عندما ينزل المطر . توقفت , رغبت فجأة النظر في المستشفى , كانت مكتظة بالجرحى , أعداد غفيرة من ذويهم يحتشدون عند المدخل , ينتظرون الإذن بالسماح لرؤية جرحاهم , خجلت جدا لاني شهدت ما يحصل وأصبت بصدمة مؤلمة وكأني أمام هذا العهر كمن تعرى وسط جمع غفير من البشر ولم يستطع أن يستر عورته , كنت خجلا جدا من نفسي لأني عرفت جيدا ما يجري . وأستطيع القول أن الجميع قد خدع لا شيء أكثر . في خضم هذا القتال , الخصام , خطة خطرة للعب , خطة للبقاء هنا فترة أطول , سوف تكشفها الأيام عن قريب وتوضع على الطاولات لمعرفة السبب , سوف يندم الجميع بعد أن يعرفوا هوية القاتل الشرير الذي أضرم النار وذكى فيها الحطب متدحرجين ككرة كيف يشاء لها أن تكون عندما تركل بالقدم , ولكن ,عندما يحين الوقت تكون الشمس قاربت المغيب , لا احد الآن يفهم اللعبة , لا احد الآن يريد أن يفهم السر . المسار واضح , لا يحتاج إلى النور , وحدهم المتعكزون بالفضيلة , اللصوص , والأبواق المأجورة , لا يحبون الألفة , لاشك إنهم يمسكون شراع المركب , يكتبون أناشيده , يرسمون مصيره , يغضون البصر عما نحب . كل ما نحتاجه أن ننظر بعمق باتجاه الشمس . المأجورين , الرثة ثيابهم , سيتساقطون كأوراق الخريف . والأزهار فقط تبقى نظرة بألوانها وعطرها .
وبتثاقل تابعت أقدامي سيرها على رصيف شارعي الجميل تعصف في رأسي أفكار وذكريات , متزاحمة كأنها شريط كثيف الصور استيقظت فيه الأحاسيس والرغبة امتزج بها الخوف والمتعة , الدهشة و الاستغراب , يغمرني شعور غريب وصدى صوت يمزق أحشائي ويأمرني بالعودة والرجوع بأسرع وقت , لم أطيق ما رأيت وما يحصل, وخزني القلق من الخطر الذي يعصف بأيامنا المقبلة , وكيف سيجتمع المتخاصمون لإزاحته والفرصة لم تزل مؤاتية ,ولكن يبدو جليا إن الأمر لا يعني احد ,فحزمت أمري احمل حقيبتي وأنا أودع من أودهم ومن التقيت بهم وسط دهشة وتساؤل , وأيقنت أن الخراب آت مرة أخرى لا محالة يرتدي ثيابا أخرى , وأيقنت أن لا جدوى من الصراخ , متشابهة الأيام كلها في خن الدجاج, روائحها , طعامها , بيضها , أفراخها الصغار , ديكها المبجل أبدا مزهوا على الدوام , سمائها لا يفارقه الغمام , لا ادري , ربما ذلك ما تفعله قوارير الماء في الأحلام .الذباب , آه الذباب متزاحما بكثافة على الطبق . والخوف يغمرني أن يحمل الوباء , . الحمير وحدها تمرح . زادوها فوق أوجاعها وجع , المسعورين , كلاب الصنم , اختاروا طريقا آخر , ترنحوا من الوجل , فقدوا شهية الجماع , تناثروا في المساجد , ومرة أخرى وجدوا متعة في حمل الحطب , خلعوا ثيابهم , ثياب الأمس , تركوها جانبا , لبسوا ثيابا أخرى , أطالوا لحاهم , تركوا أقلامهم على المناضد , استبدلوها , ووضعوا بدلا منها في أصابعهم خواتم , وشرعوا بالاتهام للأخر , يا لبؤس حظنا العاثر .,انهم أعلنوا بلا هوادة الحرب على النهار في كل المدن والأرياف , من لا يعلن توبته هو الخاسر , ومن لا يعلن الإيمان والولاء هو الآثم . خفافيش الظلام نهضوا من السبات , رفعوا الحراب , أعلنوا الحداد على الأيام , متثائبين على الفراش , أجازوا متعة النكاح , متكئين على وسائد , متخاصمين على الأطباق , يتنابزون علنا بالشتائم , سذج حتى النخاع , يطربهم الخصام , لا يجيدون معنى للكلام , همهم الأكبر أن تتوسع اكبر هذه الحظائر , يمشطون بمتعة لحاهم , لا شأن لهم ما يأكل الفقراء , كل ما يزعجهم امتداد الأشجار , زقزقة العصافير , هديل الحمام , شدو البلابل , تجمعهم بقوة رائحة الولائم . كل شيء كما هو , ما حصل تبادل للأدوار وله فواصل , لم تزل مكومة الأفواه , لم تزل مكتومة الأنفاس , لم تزل مغمورة بالوحل كلها الأحلام , موصدة الأبواب , ولم تزل كما هي الأصفاد , متعددة الأشكال ملونة عليها أختام , في زنزانة مترامية الأطراف , لم يقترف أهلها إثما , لا يوجد بينهم عاق , شردوا , قتلوا , امتلأت بهم الأصقاع , لأنهم يعشقون السلام , لأنهم يريدون الحياة , لأنهم يسعون للخلاص , لأنهم عاشوا هنا وشربوا ماء الفرات . كيف الخلاص ؟!
/COLOR]