منذ أن ولدت وأنا في النار،ربما التيجان المرصعة بذنوب عائلتي هي التي جرجرتني وأنا جنين في رحم أمي إلى هذا المكان المكهرب دوما بومض السياط،كل ما أعرفه عن ساعات مولدي الأولى هو قيام الشياطين بتعميدي بالقطران بعد أن سقطت من تحت أمي على سلاسل التعذيب،كانت طفولتي وهج نيران والحان جلد وصراخ،أما شبابي فقد كان على وتيرة واحدة، أصحو صباحا على وقع أحذية الجنود الضخمة،أجد أمامي طاولة عليها ثلاث قنان،في الأولى ماء النار وفي الثانية قطران وفي الأخيرة رصاص مصهور،كان علي أن أشربها كلها بعد أن آكل القليل من العلقم،بعدها يأخذني الجنود المقنعون إلى حيث ينتظرني الجلد وسلخ الجلود، وبعد أن أتمم جدول التعذيب المقرر يقذفوني في الحمم البركانية للاستحمام،فأفقد آخر طرق الخلاص وأنا أشهد مرور موكب ملك النار على جسدي بعربات مسننة العجلات،فتمنحني ضحكاته المريعة أرطالا من العبودية وهي حصة الخضوع لمنهج اليوم التالي،أتحمل كل ذلك وأنا أنشد اليوم الذي أكمل فيه تسديد ضريبة الخروج من هذا الخراب،الضريبة قاسية وهي أن أمنح النار طنا واحدا من جلدي على شكل دفعات،أستطيع بعد سدادها أن أحصل على جواز سفر إلى الجنة حيث الرخاء والفراشات والعسل.
بعد جهد جهيد واظبت فيه على تحمل"شفت"تعذيب ليلي،تمكنت من دفع ما كان مقرر علي، توجهت فرحا إلى مقر المنجنيق حيث يقذف بواسطته المرحلين إلى الجنة،مفاجأة كانت بانتظاري حيث رفض ملك الجنة منحي"فيزا" الدخول لكوني رجلا غير مرغوب فيه،ربما اعتقدوا بأني عميل سري لملك النار،أو مدسوسا من قبله لأجل تنفيذ أعمالا تخريبية...؟كل هذه الهواجس انحشرت في رأسي بعد أن انزويت في فترة الاستراحة خلف أحد البراكين،أراقب من مكاني الارتفاع الشاهق لسور النار العظيم الذي استمر العمل فيه دهورا طوال للفصل بين الجنة والنار،يمر من أمامي شيوخ محدودبي الظهر،ينتظرون حلول موعد قضم تبرعات أبنائهم الذين تحملوا وزر العذاب المخصص لآبائهم العاجزين عن تسديد الضريبة،أتطلع للجميع والحسرات كالضجيج في صدري،هاهم أمامي عدد من الشعراء الأشرف والأجمل في هذه المملكة السوداء،الثائرون منذ الولادة الأولى لفجر هموم الناس،المحتجون على الطغيان من خلال قصائد تدسُ يوميا من ثقوب الجدار العظيم عسى أن تصل من خلال الجنة معاناتهم،هاهم أمامي يساقون إلى غياهب أجهل ويجهل الجميع أماكنها ليحصدوا هناك أنواع العذاب الإضافي،فما نفع احتجاجاتهم وما نفع تذمري...؟
كنت عائما وسط أمواج الرعب والمخاوف حين حدث انسلاخ مؤلم في جلدي الفحام،فإذا به يركض مسرعا ويصرخ بي"جبان...جبان"،لم أكد اصحو من صدمتي حتى شعرت بأن شفاهي المخيطة منذ أمد بعيد تقطع قيودها وتفر خلف جلدي الذي مازال يشتم ويلوح حتى اتبعته أحلامي المؤجلة دوما لتسحب معها وثائق كنت محتفظا بها،منها جواز خروجي من النار،وقوائم تسديد الضرائب،وصورة من نص رفض دخولي الجنة،كلهم فروا بعيدا بعد أن لوح لهم جلدي،حاولت أن أمنعهم من مغبة الخروج الغير قانوني،ففي تلك اللحظات كانت تمرق من أمام عيني آخر مبتكرات التعذيب،والتي سأنال حصتي منها إذا ما علم أحد ما بهذا الأمر، لذلك حذرتهم،أغريتهم،توسلت بهم،ثم ركضت خلفهم ولكن دون جدوى،فقد انهارت قدماي...أو ربما تمردت علي هي الأخرى،بقيت أراقبهم من خلال دوامة الوحشة والخوف وهم يتسلقون السور العظيم ثم يختفون . ***
القاص المبدع مشتاق عبد الهادي
نص صاخب بمناخه الغرائبي ورمزيته المستمدة من الواقع المأزوم
استمتعت جدا بقراءة هذا النص الرائع
أدهشني كالعادة أسلوبك المرن في السرد وتسلسل الأحداث حتى بدا لي أن التخيل لديك
أكثر واقعية من الواقع ذاته
شكرا من القلب
تثبت مع التقدير
ما هذا النص العميق المبهر يامشتاق
توقفت عنده طويلاً وانا أتابع الصور
عتبي عليك!!!!
ان تحرم النبع من جمال حروفك وتغيب
أتمنى لك التوفيق الدائم
دمت بخير
تحياتي
الأديب الرائع و القاص المدهش / مشتاق عبد الهادي
سيدي نصك هذا جعلني سعيداً جداً . فكم انت رائع
تمتلك كل أدوات النجاح الأدبي ...يشرفني و يسعدني
أن أقرأ لك .. محبتي و تقديري لشخصك الكريم
التوقيع
أحنُّ إلى خبز أمي
و قهوة أمي .. و لمسة أمي
و تكبر فيّأ الطفولة .. يوماً على صدر يوم
و أعشق عمري .. لأني إذا مت ُ أخجل ُ من
دمع ... أمي ...