لم أكن أعلم أبدا، أنّي مسكونة بالفزع إلى هذا الحد، فزع يحتلّ ذاكرتي، يتخلّل طبقات جلدي، وينام ما بين الضلوع .
يبدو أنّي لم أعبر تلك المرحلة الممهورة بالنّار والبارود، رغم أنّي عبرت الحدود.
كنت أظن أنّي غادرت موطن الفزع، مذ غادرت موطني، لكنّي لم أغادره قطعاً، وأبى أن يغادرني بالمثل.
يالها من مصادفة عابثة، أزاحت الستارعن مكمنه في انتظار لحظة الانقضاض من جديد ،وها قد حانت فرصته .
كنّا في أحد نوادي القوّات المسلّحة عام 2002، نستعد للمشاركة في الحفل السّنوي، الّذي يقام بمناسبة ذكرى السّادس من اكتوبر، وهو تاريخ للجّيش مجيد.
وقد ضمّ المسرح رئيس الدّولة، وأعضاء الحكومة ،وعدداً كبيراً من القيادات والمراتب.
وبينما أنا خلف إحدى السّتائر، ألقي النّظرة الأخيرة على مظهري الذي لاقى منّي الرّضا والاستحسان،انكمش جسدي فجأة، وسلكت رقبتي طريقاً للاختباء بين كتفيّ، بعد سماعي صوتا بدّد أمني، واستنفر كلّ مشاعر الألم النّائمة في مخيّم الفزع قبل انقضاضه عليّ.
تصاعد الصّوت،وأخذ يتضاعف، محدثا فجوة بين الماضي والحاضر، فجوة ابتلعتني، وقذفت بي إلى الساّبع من حزيران "يونيو"عام (1981).
في مغربيّة هادئة جدّا، دخلت أمّي بصينيّة الشّاي، وأطباق (الكليجة) الشهيّة الّتي تتفنّن في حشوها بالتّمر والمكسّرات،وبينما نحن نثني على معجّنات أمي،ونغبطها على براعتها في جعل مذاق طعامها فريدا لا يضاهيه مذاق، تجرّدت أصواتنا من بهجتها على نحو مباغت، بعد مرور سرب من الطّائرات المقاتلة تحلّق على ارتفاع منخفض، أدّى إلى تحطّم زجاج النّوافذ وتناثره في كلّ اتّجاه، أعقبه صوت انفجار مروّع، رجرج الأرض من تحتنا، وحشرنا في دوّامة الفزع والتّساؤلات .
ــ ترى على أيّ منشأة، أو حيٍّ آمن، أغارت هذه الطّائرات، وكم عدد ضحايا هذا الانفجار؟ .
كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة دائرة منذ ثمانية أشهر تقريبا،
لكن العدوان الغاشم الذي استباح حرمة بلادنا، وانتهك ميثاق الأمم المتحدة آنذاك، لم تشنّه إيران، وقد جاءت الأخبار صادمة ، موجعة ،أوغرت الصّدور .
(قامت طائرات العدو الصهيوني الغادر، يوم أمس، بغارة جوية على مدينة بغداد، وذلك في الساعة 1837، وقد استهدفت تلك الغارة المنشآت النووية(*.
ثمانية طائرات من طراز F-16 أغارت على مفاعل تّموز، راح ضحية العمليّة أحد عشر شخصاً،من ضمنهم عميل فرنسي ،يعمل لصالح الموساد،وقد قام هذا العميل كما هو مرجّح،بوضع جهاز لتحديد الموقع داخل المنشأة التي يعمل فيها كتقني، ولا أحد يعرف الأسباب التي حالت دون خروجه من المفاعل قبل تنفيذ العمليّة .
يقذفني الماضي بدوره عن طريق الفجوة ذاتها إلى الحاضر المرتبك بفعل ذلك الصّوت المدوّي الذي ازداد ضراوة عن ذي قبل .
انثالت الأسئلة حائرة : ــ هل قررت إسرائيل مباغتتنا كما فعلت من قبل مع وطني العراق؟
لكن ..أيمكن أن يحدث هذا؟
هل يحق لها إلغاء اتفاقية السّلام الموقعة بين البلدين، لمجرّد أن ذكرى النّصرأوجعتها فجاءت كي تنتقم؟
توقّف سيل الأسئلة الّتي تنعق في رأسي كغربان، ما إن خرجت من متاهتي وأصخيت السّمع لما يحدث خلف السّتار.
أحاديث النّساء لا تنتمي إلى الأحاديث التي تدور في رأسي، فالكلّ لاهٍ عمّا ينتابني، رغم أنّ الصّوت ما زال يهدر دون انقطاع .
عليّ أن أتصنّع الهدوء قبل أن أنضمّ إلى زميلاتي الضّاحكات .
كانت وجوههن مشرقة لا تشبه وجهي المكفهرّ، سألت إحداهنّ على استحياء، ما هذا الصّوت الذي يدوّي في الخارج .
أجابت بمرح :ــ صواريخ .
بتعجّب يمازجه هلع ردّدت : صواريخ !
ــ بلى .. هذه إحدى مظاهر الاحتفال.
ــ آه.. صواريخ .. يعني ألعاب نارية؟
ـ نعم بالضّبط ، وماذا كنت تظنّين ؟
قلت مدّعية اللّامبالاة :ــ لا أظنّ شيئا ، كنت أتساءل وحسب .
ألعاب ناريّة، مجرّد ألعاب جعلتني أطرح أسئلة ساذجة،وكدّت أسقط تحت رحمة الفرقة الّتي أنتمي إليها، وهي فرقة غنائيّة ، يتّسم أعضاؤها من كلا الجنسين بالطّيبة وخفّة الظلّ.
لكن.. ياويله ويا سواد ليله مَن يأتي بفعل ساذج أمام أعينهم، حينها لن يعرف كيف ستنهال عليه سياط السّخرية من كلّ اتّجاه.
أحمد الله أن لا أحد اطّلع على ثرثرات عقلي الذي عاد طفلا في غمضة عين.
لابأس ، ها أنا قد عرفت خفايا نفسي، وما تدّخره من مشاعرتوارت لزمن، لكنّها لم تمت بالطبع، ذلك أن الحرب قد تناسلت في بلادي،ودقّت في الذّاكرة أوتادا من الأسى والهلع، يصعب اجتثاثها ،وبصدق شديد أقول، إن تلك الواقعة لم تغيّرمن الأمر شيئا، حيث أنّي كثيرا ما صرخت في الشّارع دوناً عن النّاس جميعاً، إذا ما صادف وسقط أثناء سيري (بمب) قام بقذفه طفلا من أحد البنايات.
وتتوالى الأيّام، وتتحوّل الألعاب النّاريّة إلى أسلحة، تُحرق بها الوجوه والأجساد، وقد قامت جميع القنوات الفضائيّة تقريبا، الأجنبيّة منها والعربيّة ببثّ الكثير من مشاهد العنف أثناء التّظاهرات التي اجتاحت البلاد.
ياااااااه .. كم من بصمة في الذّاكرة خلّفتها تلك الألعاب، تدفعني الآن رغبة ملحّة للعودة إلى ماض ليس ببعيد.
كنت أجلس في الشّرفة بعد انقطاع التيّار الكهربائي الذي يتكرّر كثيرا ويستمرّ لساعات، والكلّ يذكر أزمة الكهرباء الّتي حلّت بحلول الإخوان .
كان الاخوان حينها قد رحلوا، لكن حقدهم لم يرحل تجاه من طالبهم بالرّحيل.
انطلقت ألعاب ناريّة في سماء الحيّ الذي أسكن فيه ، لكنّني لم أهبها هذه المرّة ، ولم تأخذني هي إلى أيّ مكان ،لأنّي رأيت ألوانها المبهجة وسمعت صوتها الذي صار أنيساً بدّد السّكون الذّي خلّفه انقطاع التيّار.
اشتدّت الأصوات أكثر وأكث، اختلفت ايقاعاتها، وانطلق وميض شرس باتّجاه الشّرفات، وطغى صوت السّلاح الآليّ على كلّ صوت، وصارالمكان كما لو أنّه ساحة قتال.
ارتبك الشّارع وتعالت الصّيحات، اختنق الطريق وعجّ بالمركبات، بعض السّيارات هربت من الأفرع الجانبيّة طلبا للنّجاة من إطلاق نار عشوائيّ لا مبرّر له سوى الخوف، فالمجرم جبان وإن طغى أو استبدّ.
من الطابق الثّاني عشر كنت أطلّ على ذلك المشهد الذي أربكني و فجّر استيائي، غادرت الشّرفة في الحال، ركضت صوب إحدى الغرف البعيدة عن مصدر إطلاق النّا، نداءات الاستغاثة وصرخات الأطفال تزحف نحوي وتزيد حدّة خوفي، رائحة البارود ودخان الحرائق تسلّقا البناية الشّاهقة، وتسلّلا عبرالشّبابيك المقفلة ليتمدّدا في بيتي بارتياح.
كنت متلهّفة لمعرفة ما يحدث في شارعنا، لكنّي كنت أخشى الاقتراب من الشّبابيك وكأنّي مستهدفة من قبل أولئك القتلة.
اتصلت بصاحب متجر يوصل الطّلبات إلى المنازل، فأخبرني أن الجّناة اغتالوا ضابط شرطة واثنين من الأمناء، وأحرقوا بعض السّيارات والمحال، ثم لاذوا بالفرار، وأنّ الألعاب النّاريّة الّتي سبقت عمليّة الاغتيال، ماهي إلا تغطية على الحدث، وعلى صوت الأسلحة الآليّة، حتى يتسنّى لهم إنهاء المهمّة والهرب قبل إبلاغ الشّرطة أو استدعاء القوّات الأمنيّة المنتشرة في كلّ مكان.
قلت له باستياء:لقد فعلوا فعلتهم وهربوا دون أن يمسسهم أحد .
قال بحماس:ـ لن يمر الأمر بسلام صدّقيني، وسيقعون في قبضة العدالة بأسرع وقت، ثم راح يعدّد الجّرائم الّتي يرتكبونها يوميّا بحق الوطن والشّعب.
كنت أستمع إليه وصوت شادية العذب ينساب من بعيد:
"ماشافش الرّجال السّمرالشّداد فوق كلّ المحن، ولا شاف العناد في عيون الولاد وتحدّي الزّمن.. ولا شاف إصرار في عيون البشر، بيقول أحرار ولازم ننتصر".
أنهيت المحادثة ونزلت الطوابق الأثنتي عشرعلى قدميّ لأعاين ماخلّفه العدوان الغادرعلى حيّنا الآمن.
كان الشارع يستعدّ لاستقبال سيارات الشّرطة التي جاءت متأخّرة يسبقها صوت سريناتها التي لم يعد يحتملها رأسي الذي شوشته الأحداث.
رأيت جثث الشهداء ملقاة على الأرض ومغطاة بالملاءات وسط لفيف من الناس .
هالني مشهد الفوضى وآثار الحرائق والدمار التي خلفها المارقين .. سرت على غير هدى لأبتعد قدر المستطاع عن مشهد الخراب.
استأنفت السير، وأنا أتطلع إلى السماء لعلي أجد نجمة تسامرني في حلكة الليل .
لمحت أضواءاً ملّونة تنطلق من بعيد، ارتجف قلبي ،عدت أدراجي مسرعة والحيرة تخض دمي، هل هذه ألعاب نارية مصدرها احتفالي وحسب، أم أنها عملية أخرى تنفذها قوى الظلام، لتسقط المزيد من الضحايا في هذه الليلة الليلاء؟ّ
الغالية سولاف
بداية أهلاً بك على ضفاف النبع من جديد بيتك وبين محبيك
غاليتي ما عانيناه وما حلَّ يلازمنا أينما نكون
عندما تنعدم الأنسانية يموت كل شيء جميل
وأنا أقرأ مرَّ شريط الذكريات أمامي وجعلني أختنق
تستحق أن تكون في العُلا
دمت بألق
محبتي
عزيزتي الأستاذة عواطف عبد اللطيف طابت أوقاتك
سعدت بحضورك الجميل وانطباعك عن النص ..كما سعدت بمشاركتي الأولى بعد زمن طويل من الغياب عن بيتنا وأحبتنا
دمت بخير وإبداع يا سيدة النبع
تحياتي غاليتي