نهر الحب ...للشاعر العربي الكبير
عواد الشقاقي
الجزء الثاني ...
نقف هنا عند الجزء الثاني من هذه القراءة ، والتي رأينا تقسيم القراءات لأجزاء ، ووضعنا في عين الإعتبارالبناء النفسي للقصيدة ...
يا نهر عدتُ إليك من فرط المنى
للقاء مَن أهوى وبثِّ خواطـري
نرى أنَّ الشاعر في هذا الجزء ، يعتصره الحزن ، ويحاولُ أن يحبس دموعه ، فقد حرّك هذا النهر لواعج ساكنة ،وأثار ذكريات غالية ...وهنا يخاطبُ النهر ويقول له : أنني عدتُ لك يا نهر ، فلك تكن زيارتي عابرة ورأيتك ، بل عدتُ لك تدفعني الرغبة والأمنيات أن ألتقي تلك الحبيبة ، حتى أستطيع أن أبثّها ما يجول في نفسي ..
ولكَـم أتيتُـكَ والهيـامُ يقودُنـي
فبكيتُ حينَ رجعتُ دونَ مُعاشِري
هل كانت هذه الزيارة للنهر هي الوحيدة ؟ هنا يؤكد زياراته المتكررة ، وقد يجد القاريء أنَّ هناك ثمّة تناقض بين البيت السالف ( يا نهر عدتُ ....) وهذا البيت ، ولكن الحقيقة أنَّ الشاعر قد زار هذا النهر زيارات كثيرة ، ولكن فاصلا زمنيا حصل ، فعاد له ..وهنا يسترجع بعد لقاء النهر بعد طول غياب أنه لطالما كان يأتي إليه يدفعه الهيام ..واليوم يبكي حين يجد نفسه أمام هذا المكان الذي يحمل ذكريات مع حبيب شاركه رحلة الحب والوجد ....
أنَسيتَ يوماً فيه في عفو القضـا
صبّانِ هاما باعتـلاقِ تناظـر ؟
ويستمر يستعرض شريط ذكرياته ، موجها سؤالا للنهر عن عاشقين تعلق قلباهما بنظرات وامقة ، وهنا تتجلى رقة المشاعر التي تسكن هذه النفس الشفيفة ....
بضفافك الوسنـى فكـانَ تبسـمٌ
فمواعِـدٌ فلِقـاً بحُـبٍّ آسِــر ؟
إمرأة وسنى : إمرأة فاترة الطرف كسلى من النعمة . هنا يشبه الضفاف بالمرأة فاترة الطرف المنعمة ، وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية .
ما أجمل هذه الصورة البيانية المذهلة ، وهي تؤكد لنا شاعرية الشاعر ، وبديع تصويره ، يشبه ضفاف النهر بالمرأة ، ثم يوظف قول الشعر أحمد شوقي في نظم رائع ... يقول شوقي :
نظرةٌ ،فابتسامة ،فسلام .....فكلامٌ ،فموعد ، فلقاء
وهنا نستشفُ ثقافة شاعرنا التي أحسن توظيفها في صورة تنسجم مع القصيدة التي نحن بصددها .
ورياضَكَ الغنّاءَ نـأوي صبـوةً
في كلِّ يومٍ بالوئـام الساحـر ؟
بعد الضفاف ، يرسم لنا مشاهد جميلة تُحيط بالنهر ، وكأنه يريد أن ينقل لنا الصورة الجميلة للمكان ، فبعد جمال ضفافه ، نرى أن حول النهر ليس قفرا ، بل تحيط به الجنائن الجميلة ....وهذه الرياض البديعة كانت محطة للقاء العاشقين ....تحتضنُ حبهما الذي يصفه بالساحر .
وعلى فروع الدوحِ في ظلِّ اللِقـا
آثـارُ قُبْـلاتٍ وبـوحُ سرائـر
وهنا يُغرقُ الشاعر في الحديث عن تفاصيل اللقاء ، فكان لقاء فيه الحديث عما يجول في النفوس والقلوب ، تتخلله القبلاتُ والعناق ...
( يا نهرُ أين مضى الزمانُ بأُنسهِ )
وبذكرياتٍ قد أثرْنَ محاجـري ؟
هنا في الصدر الأول من البيت ، لماذا وضع الشاعر هذا الصدر بين قوسين : الحقيقة أن الشاعر لديه الأمانة الأدبية ، فهذا الصدر قام بتضمينه من بيت شعر للشاعر الكبير / بدر شاكر السيّاب ، يقول السياب :
يا نهرُ أين مضى الزمان بأنسه ....والمترع المعسول من كاساته
وهنا نجد الشاعر لم يستطع حبس دموعه ، فهو الآن يبكي ذكريات تجول في خاطره ، وتتجلى الصورة البيانية في عجز البيت بصورة جميلة رائعة .
في صورةِ الأطيافِ يطفو ذكرُها
فأذوبُ من فرط السُهادِ بخاطـر
وهذا البيت إستمرار لوصف الحالة النفسية التي تسيطر على هذا العاشق .
روضٌ خرافيُّ الخمائـلُ ساحِـرٌ
يأوي اليـه كـلُّ صـبٍّ سـادر
في هذا البيت ، يصف الشاعر حالته وصفا دقيقا رائعا ، ينقلها لنا بتصوير بديع ...
عاد ليتحدث عن جمال الروض ، وسحر خمائله ، وكيف كان يأوي لهذا الروض كل عاشق تائه مشتت ، أي أنَّ هذا المكان لم يكن خاليا ، بل كان ملتقى العشاق ، يلجأون إليه ، ليناجي كل عاشق حبيبه .
والجدولُ المنسابُ بيـن ظلالـهِ
والماءُ في مسراهُ فكـرةُ شاعـر
وسَنا رواسِمِـهِِ أعـارَ مروجَـهُ
ثوباً موشّىً من نـدىً وأزاهـر
والطائـرُ الغرِّيـدُ فـي إنشـادهِ
ألحانـهُ ، مجلـى جمـالٍ باهـر
يشدو بأنغـام الطبيعـةِ صادِحـاً
للحبِّ مزهـوّاً بصـوتٍ ناضِـر
في هذه الأبيات ، يسرحُ الشاعر ويسافر في خياله ، ويرسمُ بالحروف ما يشاهد من جمال طبيعة جذاب ...هذه الأبيات تقدم لنا وصفا بديعا يذكرنا بالشاعر البحتري الذي أبدع في الوصف ...وهنا نجد أنَّ الشاعر عواد الشقاقي هو حقا شاعر مطبوع ، ففي خضّم غزله ، ينقل لنا صورا تخيلها وصورا رآها ...كم أنت شاعر !!
ونواهِدٌ بيـن الغصـونِ وفتيـةٌ
كلٌّ يُجاذَبُ مـن أليـفٍ شاعـر
الناهد : المرأة التي صار نهدها بارزا مرتفعا ...وهنا أراد أن يؤكد لنا أن هذا الروض كان محطة للقاء العشاق ، ورأى نساء برزت صدورهن ، لكن لماذا ذكر مفردة نواهد ، إن الشقاقي لم يلجأ لحشو كلمة جزافا ، بل أراد أن يقول : أنه حين التقى محبوبته ، لك يكن هناك وحده ، بل رأى نساء عاشقات ، ولسن صغيرات السن ...
وكنَّ مع فتية بين الغصون في خلوة غرامية ...
بقي أن نُشير أن الشقاقي قد تأثّر حين نظم هذه القصيدة برائعة الشاعر بدر شاكر السيّاب ، وكانت هذه القصيدة حاضرة في وجدانه حتى صاغ لنا هذه الباذخة ..والتي جاءت تحمل لواعج عاشق لم يُنسه عشقه وهيامه عن نقل ووصف الصور الخلابة التي جذبت قلبه وعينه لطبيعة آسرة ....مما يؤكد لنا أننا نقف أمام قامة أدبية عربية باسقة ، نعتز بنبع العواطف أن تكون بيننا ...
إلى لقاء في الجزء الثالث والأخير بحول الله من هذه القصيدة البديعة
الوليد