أواه يا دمع العيون على الذي=جعل القلوب مرارة تتفصّدُ
والله لو شهد الحبيب صنيعكم= لبكى على ما نحن فيه محمدُ
أبدعت أستاذنا القدير..
لقد دعوت المتلقي إلى باب لا يستحق عناء طرق لأنه مفتوح على مصراعيه
الجليل ..وما أدراك ما الجليل..وللحديث مسارب أنّى لضماد الأيام أن يكفكف نزفها وقد تهادى أنهارا ووديانا روّت ظمأ أرض
سوف تبقى تُحبل مع كل فجر ببذور ثورة خالدة .. حتى وإن حصدت معها الآلاف من الأبرياء فإنها ستبقى ملحمة أمة
وميثاق شعب على النار يمشي منذ الأزل ..
القلـبُ مـمـا يعتـريـه يُـجَـــــدَّدُ
وبضاعـة ُالإيـمـان لا تتأكـسـدُ
يقول شاعرنا :..
أن القلب رغم كل تلك النوائب التي يختزلها في كلمة (اعتراه) وكأنه يدرك مسبقا بأن المتلقي سيشركه أحداثا قد عاشها مشهدا فآخر..
فهو إذن يعتمد على رصيد المتلقي – المتراكم - ببنك الأرزاء هذه الأخيرة التي رغم بشاعتها لم تستطع أن توهن ذلك القلب ..
أو تثني عزائمه لنراه يتجدد، أو يُبعث فتيا بعد كل طعنة خائنة تستهدفه وكأني بأستاذنا الكريم يستمد قوته وجلده مع أهل
مدينة الجليل من كل ما اعتراهم ،ويعتريهم متتاليا لأن الدائرة لا تزال مغلقة وهي تلوك الأحداث الدامية تباعا ..
تلك الأحداث التي قطفت ورد صفائهم..لتتساوى أمامهم الدنيا حلوها بمرها لا لشيء إلا للإيمان الذي سيبقى
نبعا رقراقا بين قلوب لم تنس الله في سرائها وفي ضرائها
وأكيد سوف تستوقف القارئ كلمة تتأكسد وانزياحها الواضح عن دلالتها المعجمية ..
لكن الشاعر الخبير قد ترك كلمة القلب مثبتة بمعناها المعجمي حتى لا يحرم القارئ من متعة تذوق هذه الصورة الفنية الراقية ..
فنحن نعلم أن المعادن هي التي تتأكسد يعني يصيبها الصدأ
لكن شاعرنا استعار كلمة تتأكسد من مادة صلبة جامدة ليسقطها على قلب رقيق نابض في سبيل الاستعارة المكنية ..
وهي صورة تبدو لي مبتكرة ..لأن الشاعرالجيد لا يتخذ اللغة الجاهزة فقط كأداة يشكل بها عالمه الخاص ، أو يسبح مكبلا
في عوالمها ،وإنما يعيد تشكيل لغة جديدة من اللغة الخام فهو بالتالي يقطفها من مجازه الخاص ليصنع بها كائنا
حيا لا يريد أن يسبقه لصنعه أحد غيره..
وبهذه الطريقة تبقى اللغة حية - بي جنبات بعض النصوص - طالما هي تنبض بروح العصر بغية التجديد لا التقليد ..
كما يبدو لنا أن شاعرنا قد تنكّب على الرمز الكلي - من أول النص حتى آخره - أوما يعرف بالقناع الذي تتحول فيه القصيدة
إلى رمز من البداية للنهاية مواصلا جدل ضفائر كلماته ضفيرة فأخرى مستندا على أحداث توالت
كغيوم ماطرة بسماء هذه المدينة الطاعنة في الأصالة والتاريخ والتي ستبقى ظبية كم أعيا الرماةَ صمودُها
رغم ما اعتراها من مآس
وما نلاحظه أن النص يحمل الكثير من الصور البيانية والانزياحات الدلالية التي رصف على حدّها شاعرنا الكريم صوره المنتقاة بوجيعة ..
وفجيعة مسترسلا في رسم جرح أعمق من أن يحاوطه الحرف مهما اتسعت آفاقه ومداراته الشاسعة التي تبدو جليا هاهنا ..
وكم من شموع تناثرت على الأرصفة والطرقات وما هذه الشموع إلا رمز لأطفال المدارس الذين بقيت
مقاعدهم شاغرة أمام طفلة أخطأها الموت هذه المرة لتبقى تبكي أترابها وهي تجلس على مقاعد الدراسة متذكرة ماضٍ
تجلى وانبرى ؛ولم يبق لها منه سوى صدى أصوات من راحوا..
وفي ذات الوقت هي تنتظر دورها مدركة بأن بابَها سوف يُطرقُ يوما فإن أخطأها الموت اليوم
فهو – دون ريب - لن يخطئها غدا وذلك لعمري قمة الوجع ..وجع انتظار المجهول ..
وأي عراء هذا الذي يقصده الشاعر هنا غير عراء الملاجئ ..عراء المنافي ذلك الذي تيبست صوبه كل الشفاه
ولم تعد قادرة على الكلام وقد اختارت الصمت لأن المصاب جلل.. والجرح أكبر من أن تصف تفاصيله شفاه أثقلها
التيبس لينوب عنها ذلك الكتمان المرير الذي كانت له ردود أفعاله هو أيضا
فلقد حقن عروق القلب التي فصدها التغرب..
وهنا تبدو لنا جليا روعة التشبيه الضمني للتغرب بالمُدى التي تفصد عروق القلب المحتقنة لتنفجر وتبوح
بما هو منسكب أمامنا نزيفا صامتا ..
فالنص إذن هو مرآة عاكسة لواقع لا يمكن أن يغطيه التجمل.. ولا التكتم.. ولا الصمت الذي كبّـل الألسنة على مر الدهور لينطق
به حرف ميزه رصد الحقائق وتسجيلها موثّقة شعريا لتبقى شاهدا على أحداث أكبر من أن تطويها دفاتر الزمن
ورغم الصنعة اللفظية التي تبدو جليا على النص - حيث أجاد الشاعر استخدام العلاقة الضدية وتوظيفها أحسن توظيف بين
بعض الألفاظ..والمعاني وما هذه العلاقة الضدية التي توحي بالشيء ونقيضعه إلا تعميقا للمعنى حتى يزداد كثافة ..قوة.. وإيحاء مثلا
1. طباق الإيجاب بين ترغي وتزبد في البيت الحادي عشر
2. والطباق المعنوي بين متفلت وزاهد في البيت الثالث عشر
3- التصريع بمطلع البيت
يا دمعـة َالعــــــــــــيـد التـي لا تنجلـي
إلا ليُــــــــــــــهـدَمَ دون ذنــب ٍ معـبـدُ
4 - ترصيع البيتين الآنفين بحرف العين ...إلى غير ذلك من مواطن الجمال البادية جليا -
قلت رغم الصنعة اللفظية إلا أننا لم نلاحظ أي ضعف في المضمون المختار بامتياز وبذلك يبدو لنا جليا تساوي الكفتين شكلا ومضمونا ..
وهذا بطبيعة الحال ليس غريبا على شاعر في مقام أستاذنا الكريم صبحي ياسين
ومجمل القول نستطيع أن نقف من خلال هذا النص على ذلك الصراع الذي ظل ملتهب الرحى بين سلطتي المركز والهامش ..
وهذا تعزيز وتقوية للمركزية العربية وقوة حجيتها كجذع ثابت متجذر برحم الأرض أمام فروع هامشية ..
سوف تظل مستقيمة بهام الفراغ مهما حاوطت الجذع لتضعف عزائمه
وهكذا يبدو لنا جليا ومن خلال نصوص الأديب صبحي ياسين الانعكاس الواضح الذي يجعل الأدب مرآة صادقة لصاحبه
الذي لا يريد أن يخرج من دائرته متنكرا كغيره ممن فضلوا التحليق بمدارات الآخرين
وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نقرأ ، أو نستشف ما وراء كل كلمة وردت بهذا النص إلا بإحالتها على الواقع الذي يعيشه الكاتب
لنجد أن كل لفظة هي بمثابة الغصن المقطوف من واقعه (أي واقع الكاتب) ذلك الغصن الذي حتى وإن تبدَّى لنا يابسا في أول وهلة فإننا
لو فتحناه لنزّ جرحا ينوب عن كل حديث يمكن أن ينمَّق
وإذا عدنا لموقع مدينة الجليل الجغرافي الذي يتشكل عموما من مرتفعات صخرية مغطاة بالخضرة باستثناء كونه منطقة سياحية تميزها
المناظر الخلابة ندرك من أين تستمد قوتها ومركزيتها أمام هامشية المستعمر لنستصغر تلك النكسات التي أشار لها الشاعر بإسهاب
في النص أمام عظمة هذه المدينة تحديدا ..وندرك بأنها سوف تبقى كغيرها من مدن فلسطين تقاوم كل أنواع الاستدمار
وهذا ليس غريبا على أرض كم أخضر أديمها رغم جيوش اليباب
سعدت كثيرا بمصافحة الضفة الأخرى لنصك أستاذنا الكريم حتى أقرب بعض الصور للقارئ الشغوف عله يشركني
مذاق هذه الحروف التي تدلت عناقيدها ولكل طريقته في القطاف
طيب الله أيامك ورزقك الأمن ..السلامة والأمان
ولك مني مفردات التقدير مع أصدق الدعوات
رد: قراءة في قصيدة هلال وصليب أو ..(الجليل) للشاعر صبحي ياسين
قراءة عميقة جميلة كما دائما.. استقرأت البوح وغاص مكامنه القصية أبعد فأبعد
سلمت أناملكم أيتها القديرة.
وللشاعر الكبير الأستاذ صبحي من هنا ألف شكر وسلام على قريحته الحاثة على التوغل
بروعة وبيان..
تقديري لكما والمودة
رد: قراءة في قصيدة هلال وصليب أو ..(الجليل) للشاعر صبحي ياسين
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ألبير ذبيان
قراءة عميقة جميلة كما دائما.. استقرأت البوح وغاص مكامنه القصية أبعد فأبعد
سلمت أناملكم أيتها القديرة.
وللشاعر الكبير الأستاذ صبحي من هنا ألف شكر وسلام على قريحته الحاثة على التوغل
بروعة وبيان..
تقديري لكما والمودة
ولكم أطيب التحايا أخي الكريم ألبير ذبيان
أشكر لك جمال التقريظ ..وطيب الحضور
واسأله تعالى أن يعيد لأوطاننا المغيبة ما انسفح منها ..ويجعلنا تحت ظلاله إخوانا