كتاباتي الاجتماعية:
كنتُ بنت الشرق العربيّ المخلصة لبلادها وأبنائه، أطمح لهذا الشرق أن يواكب التطور الحضاري من غير أن يؤثر ذلك في شخصيته الشرقية. وفيما يلي بعض مما قمت به في سبيل ذلك...والذي كان سلاحي فيه عقل مفكِّر وإرادة صلبة،وأسلوباً في الكلام رصيناً وساحراً.
أنا والمرأة:
كنت أؤيد المرأة وأطالب بحقوقها، فقد انضممتُ إلى الحركة النسائية التي كانت ترأسها هدى شعراوي، وكذلك اشتركتُ في الاجتماعات التي كانت تعقدها في الجامعة المصرية القديمة. وكتبتُ عن شهيرات النساء في عصري مثل باحثة البادية وعائشة التيمورية. وطالبتُ بإنصاف المرأة؛ إلى جانب ذلك طالبت المرأة أن تتحرّر، على أن لا تخرج عن حدود المعقول والمقبول، بل يكون تحررها على أساس العلم والتحفظ. وترى ميّ أن يكون موقف المرأة من الرجل، والرجل من المرأة موقف انسجام مع الطبيعة والنفسيّة، في غير تطرف ولا تفريط.
أناوالحُكم:
عالجتُ موضوع الحكم في كتابي "المساواة" .وقد نثرت آرائي هنا وهناك من شتّى أبحاثي. ودعماَ لموقفي في كتابي فقد استعرضت الأنواع المختلفة من التيارات والنظريات مثل الطبقيّة والأرستقراطية والعبودية وغيرها.
فمثلاَ عن العبودية والرّق استعرضت مراحلها عبر التاريخ، وبينت العوامل التي عملت على إلغاء ضروب العبوديّة وتدعيم قواعد التحرير؛ وأنا أرى أن هذه العبودية ما زالت تلاحق الإنسانية بصورٍ مختلفة وأساليب شتّى.
الخطابة :
قالت جوليا دمشقيّة: "لم أرَ في حياتي خطيباَ اشرأبّت إليه الأعناق، وشخصت إليه الإحداق كميّ، فكانت، وهي تخطب، كأنَّ أجفان سامعيها مشدودة إليها بالأهداب، وما ذلك إلا لأنّه اجتمع في الخطيبة أهم مقومات الخطابة".
وهذه المقومات التي تشير إليها الكاتبة هي : سلامة الذوق، ومراعاة مقتضى الحال، ورخامة الصوت وطاقته الانسيابية الفريدة وغيرها من المقومات التي تميزتُ بها
شخصيتي:
مما قلته في وصف نفسي في رسالة بعثتُها إلى جوليا طعمة دمشقيّة:
"أصحيح أنكِ لم تهتدي بعد إلى صورتي؟ فهاكِهَا: إستحضري فتاة سمراء كالبنّ أو كالتّمر الهنديّ، كما يقول الشعراء، أو كالمِسك كما يقول متّيم العامريّة، وضعي عليها طابعاً سديميّاً من وجد وشوق وذهول وجوع فكريّ لا يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يرافق ذلك جميعاً استعداد كبير للطرب والسرّور، واستعداد أكبر للشجن والألم- وهذا هو الغالب دوماً- وأطلقي على هذا المجموع ميّ..."
ويُقالُ بأنني كنت أتصفُ بالجرأة الأدبية والاعتداد بالنفس والثقة بالذات، وكنت المرأة التي تحاول الهيمنة على مجتمعها لتخرجه من تخلفه وضيق آفاقه، وتنطلق به في عالم الرّقي.
قصتي مع جبران
حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي .
لقد دامت تلك العاطفه بيننا زهاء عشرين عاماً , دون أن نلتقي الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكنتُ في مشارقها , كان هو في أمريكا وكنتُ في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاءُ ، بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية وروحية ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كنا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..
كان طبيعياً جداً أن نتعارف عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منا شهرة كبيرة .. كنت معجبة بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب اطلاعي على قصته ( الأجنحه المتكسرة ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له معربة عن إعجابي بفكره وأسلوبه , وأناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصة التي قرأتها له ...
وعرضتُ عليه رأيي في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي اتفقتُ معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قلت " لايصح لكل أمرأة لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأة بواجبات الشراكة الزوجية تقيداً تاماً حتى لو كانت سلاسل ثقيلة , فلو توصَّل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانة ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأة الأجتماعية التي هي عضو عامل فيها "
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منا يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منا يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الآخر ...
وقد تدرّجت لهجة جبران في مخاطبتي من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقة حميمة، ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسلة من الخلافات بيننا التي عبّر عنها جبران مرةً :" هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب إلى مرارة " ، وقال :" إن الغريب حقاً في هذه الصلة تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي علينا شفافية روحية تغمرنا بالسعادة ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمنا ويؤدي الى القطيعة أحياناً ,, ولكن شدة ولع كل منا بالآخر كانت تدفعنا للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منا يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , والرموز، ويضع عبارات وصور مبتكرة وجميلة .. فلم ينادني قط بقوله : "حبيبتي" ولم يخاطبني باللغة المألوفة للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وأنا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بي " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدموية والأخلاقية "وبعد أن باح لي رجاني أن أطعم النار رسالته اذا لم أجد لبوحه الصدى المرجو في نفسي.
كنت في حياة جبران الصديقة, والحبيبة الملهمة , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ما أحبه فيَّ عقلي النيّرالذي تجلى في مقالاتي وكتبي , وأحب فيَّ حبي له .., وإعجابي بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني الذي كنت أتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتي في مصر ...
وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فإن حبه لي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لي معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعلة الزرقاء , التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى صفائها , ويميل المحللون للاعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب أنني أحببتُ جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّي أمراً مستحيلاً , برغم ترددي في الإعراب عن مشاعري وخشيتي في الانطلاق على سجيتي في مراسلته , وذلك بسبب أن جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أنني كنت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئة التي عشت فيها .. وبرغم أنني جعلت من بيتي صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...
فقد تمنى جبران أن أتحرر من عقدي النفسية وشكوكي ! فقد عانيت صراعاً نفسياً حاداً في حبي لجبران سبّب لي الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزتُ الخامسة والثلاثين من العمر لملمتُ كل شجاعتي وكتبت أجمل رسالة حب ..
" جبران !
لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب . إن الذين لايتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية رهيبة قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في الحب السطحي لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر ,, ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها , والتلهي بما لاعلاقة له بالعاطفة , يفضلون أي غربة , وأي شقاء ( وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب ؟) على الأكتفاء بالقطرات الشحيحة ..
مامعنى هذا الذي اكتبه ؟ اني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف أنك " محبوبي " , وأني أخاف الحب , أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير .. الجفاف والقحط والللا شيء بالحب خير من النزر اليسير , كيف أجسر على الأفضاء اليك بهذا , وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري , الحمدلله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به, لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام , ولاختفيت زمناً طويلاً , فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى .. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية .. قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى .. فأني أثق بك , وأصدق بالبداهة كل ماتقول ..! وسواء كنت مخطئه فإن قلبي يسير إليك , وخير مايفعل هو أن يظل حائماً حواليك , يحرسك ويحنو عليك ..
غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة ,, أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون ؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي , لها جبران واحد , تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء وتعلم ان الظلام يخلف الشفق وأن النور يتبع الظلام وأن الليل سيخلف النهار والنهار سيتبع الليل مرات كثيره قبل أن ترى الذي تحبه ... فتتسرب إليها كل وحشة الشفق , وكل وحشة الليل , فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشة في إسم واحد : جبران !
ماري زياده
..
وفاتي:
مات أبي وبعده أمي. ثم توفي جبران ، فكانت الفاجعة كبيرة، وذلك لأننا كنا متحابين على الرغم من أننا لم نلتقِ، إلا أننا كنا نتبادل الرسائل. فشعرت بالوحدة، وغلبني الحزن فاعتزلتُ الناس، وانقطعتُ عن الكتابة والتأليف، وتغلبت عليَّ "الوساوس"، فمرضتُ سنة 1936 وبقيتُ في اضطراب عقلي نحو عامين، وتعافيت ، إلا أنه عاودني المرض مما أدى إلى وفاتي في مستشفى المعادي، ودفنتُ في القاهرة في 19 تشرين الأول من سنة 1941.