لم يكن موت نازك الملائكة مفاجأة لي , لأنها كانت ميتة منذ عشرين عاما جسدا و روحا و فكرا و إبداعا , و كل مقالات الرثاء و الإشادة بها لن تجديها نفعا فقد رحلت بهدوء نسية منسية ...
أنا لم أحزن لموتها قط... بقدر ما كنت حزينا عليها في فترة مرضها الذي أقعدها و عزلها عن الحياة و الإبداع... بل بالعكس تماما... فقد فرحت لأنها تخلصت من آلامها الجسدية و النفسية و الروحية.. حيث لم ترأف بها الدنيا بل أذاقتها ألوان العذاب.. فجاءت يد الموت الحانية تنتشلها من مخالب الحياة و أنيابها بحيث يصح فيها قول المتنبي : كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن يكن امانيا
إذا.. كان الموت خير علاج لهذه الشاعرة التي حملت على كتفيها صخرة سيزيف لبلوغ الحلم المأمول الذي كان ينأى عنها كلما اقتربت منه .
هكذا في لحظة عبثية مشؤومة يبنى سور شنيع بين رائدة الحداثة الشعرية و إبداعها الشعري.. و كأنها لم تملأ الدنيا و تشغل الناس أكثر من نصف قرن منذ قصيدتها" الكوليرا "1947 و حتى آخر قصيدة ؟
هل لدينا الدموع الكافية لنبكي على كل مبدع و شاعر في حياته قبل موته لاسيما شعراء العراق المراق الذين لم يعيشوا و لم يموتوا إلا في المنافي البعيدة ؟
نازك الملائكة واحدة من أساتذتي الشعريين الذين تتلمذت على أيديهم منذ شبابي الآفل.... قرأتهم بنهم ومودة.... و ربما كان ذلك سببا في تعلقي بكتابة شعر التفعيلة حتى هذه اللحظة غير المباركة....
على من سأحزن و أحزن..على أي حلم من الأحلام المهيضة التي كنت أنتشي بهبوبها و أرى الغد المأمول قاب قوسين و أدنى.. و لكم رددت مع خليل حاوي :" يعبرون الجسر في الصبح خفافا " و مع حامدبدرخان "أفتش عن قاتل لوركا" و مع الجواهري" خلفت غاشية الخنوع و رائي "و غيرهم و غيرهم... لم أكن أرى نفسي إلا في وجوههم و مراياهم..... و لم تكن علاقتي الروحية بنازك بمستوى هؤلاء الثوريين الذين هزوا عرش الطغاة بالكلام الذي كان مجرد كلام... فنازك كانت أقل ثورية و جلجلة ..بدأت شعرها برثاء شهداء الكوليرا في صعيد مصر و اعتبرت قصيدتها فتحا مبينا في عالم الشعر الذي كان كلاسيكيا رتيبا,, و مع شدة إخلاصها للفن و الآخرين و نزعتها الإنسانية العالية لم يشارك في جنازتها إلا القلة القليلة من المثقفين و جنازتها البائسة ذكرتني بجنازة السياب قبل ذلك ..و هذا الأمر ذو دلالة خطيرة... و هي أن الشاعر العظيم فدائي يحمل صليبه في حياته لولادة حياة جديدة... و حين يموت يموت وحيدا كأي كائن حيواني أو نباتي.....و نازك رحلت وحيدة كأي إنسان مهمش لم يقدم لا لنفسه ولا للحياة أي شيء .
و الأدهى من ذلك أنها في المرحلةالأخيرة من حياتها أهملت _عمدا أو دون عمد_ و ربما كان ذلك سببا في استشراء الداء العضال الذي لم يتخل عنها حتى الرمق الأخير.
ابنها الوحيد الدكتور" براق عبد الهادي "عبر أروع تعبير عن وفاة أمه حين قال :" إنه موقف محزن بحق لأني فقدت أعز شيء في حياتي و هي والدتي الحبيبة , لقد كانت والدتي طيبة القلب.. حلوة المعشر.. رقيقة الإحساس و المشاعر.. و لها فكر ثر تميل دائما إلى الإبداع و العطاء إنها تعشق أدبها و علمها الذي و رثته عن عائلتها المعروفة بالنتاج الفكري الخلاق "
أجل... رحلت عاشقة الليل و تركتنا يتامى... رحلت عاشقة ليل بغداد و دجلة والنخيل و قرارة الموجة و البحر الذي يغير أمواجه... و الثورة الغدارة التي تأكل أبناءها كقطط متوحشة ....
"هكذا يموت الشعراء كما العصافير و الطغاة....... و لكنهم يعيشون أبدا" على حد تعبير الشاعر النقش بندي" يونس الحكيم " في رئاء ابن بلده الشاعر" سيداي كلش" ...
نازك الملائكة
كلمات على قبر نازك
صداك سيبقى
و نحن الذين نموت
يقولون:" مت "
و كيف تموت التي لا تموت ؟
صلاتك ثورة
و أنت التي بين يديك
تحرر شعر.... لأنك حرة
أكان عيك الرحيل
بعيدا بعيدا ؟
أما كان ثمة قبر ببغداد
يرسم فجرا جديدا ؟
أكان عليك
و أنت هناك" بمصر"
أكان عيك الفراق
و أنت تضمين طيف العراق ؟
أنا لست أبكي
لأن البكاء عليك قليل
و لو كان بحرا
وأنت الكثيرة
شعرا و فنا و سحرا
و أنت صلاة و ثورة
و أنت قرارة موج
تفيض على الروح جمرة
لقد كنت لليل عاشقة
ليل بغداد... دجلة... بصرة
متى البحر غير ألوانه
صار بين يدي القصيدة حبرا
يكابد حسرة؟؟
رحيلك حلو و مر
كنجم مقيم بقلبي
و نجم يمر
رحيلك أثقل من جبل
فوق صدري
و أقسى من القيد
في يد حر
رحيلك أصداء عاشقة
و رفيف شجر
و حنين بعيد إلى عالم
ليس منه مفر
فكفاك.. كفاك رحيلا
أما كان شعرك
في ظلمات المنافي دليلا؟
إنما لا ...
لا يموت الشعراء
تركوا الأرض...
وغابوا في السماء