نظر إلى الشخص الجالس قبالته على السرير في الصالون، ولم يدر لماذا تذكر صورة أبيه. أرهف سمعه وقبض شفتيه وبدد وجهه كأنما يعتصر شيئا داخل أمعائه. حديث الحاضرين متواصل لكنه منتظم لا يثير الانزعاج. صغار يتضاحكون وينشرون صخبهم في كل أنحاء البيت، ثم يتفتتون كل واحد إلى حجر أبيه أو حضن أمه. رماه أحدهم بقولة ساخرة، كان ابن عمه الهادئ الطباع عندما رآه يتلوى بمنظره التعيس وبالحيرة المبددة .
لحظتئذ تحرك من مكانه، وعدل من جلسته الغريبة. لم يكن ناقما على نفسه، ولا على أحد من الحاضرين، وحتى على ابن العم الذي حدثه بلهجة السخرية. بل كان في قلبه نقمة حقيقية على الشجر المنتشر بكل الأرض. لو أن أحدا يفهم ما به، ويفهم كلامه المعجون برائحة الإشارات والاستغراب، والمبلل بمياه الهجرة والانتقام .
حركت عيون الحاضرين رغبته المدفونة في الكلام بنظرات متوقدة، ثم أخذت أسماعهم تلتقط الأحرف المعدنية ببطء علها تشفي سقم الحياة العليلة. قربت خواطرهم مقعده من موقد الشرارة الملتهب، بينما جلس القرفصاء والصقيع يحمله على أكفف الراحة في جناح زجاجي على السرير المقابل. في البداية توردت وجنتاه بعدما سرى الصقيع في عروقها. أعادت التجاعيد في وجهه ولادة دهن عميق في الاصفرار، وكان يوما باردا انتشرت الغيوم فيه على السطوح .
ها هو ذا ينشر صحيفة للمرة الأولى وهو سائر يقرأ المقالات ويرفقها بشروحات، ويضيف كلاما آخر لا يفهمه أحد منهم: "لقد طلب الشجر مني يوما أن أنضم إلى حزبه الديمقراطي. أرأيتم في حياتكم حزبا اسمه الشجر الديمقراطي؟ فأين العقل من الجنون إذن؟". ضرب بكفه على جبينه ولطم خديه بها، ثم رمى بالجريدة من النافذة إلى الشارع. وعادت إليه مرة أخرى ذكريات الماضي الناقم عليه الذي عرفه في أقبح صورة. الطفولة وذكريات مغازلة الشجر والأزهار، يعثر فيها التراب بعبقريته وأشعة الشمس على الأحواض والسقايات .
دخل التهامي إلى عالمه الخيالي الصغير وجال بنظره بأرجاء كواكبه وأقماره. لا شيء ينقصه منذ عرفه، كل شيء فيه يوحي إليه بالحيوية والحب الأبدي. النجوم الرقيقة، الأسرة والسجاد، الزرابي الفاسية المزركشة بألوان الطيف. كل هذا أصبح قطعة من أحلامه وذكرياته. يجلس يوميا على صخرة الوحدة، يعيش الطفولة في وحدته بعد انتهاء عقد الاهتمام والمبالاة الذي وقعه من قبل .
وحينئذ رأى إليه الحاضرون نظرة استهزاء واستعلاء، كأنه غير ذلك الذي كانوا يعرفونه من قبل. التهامي العاقل الذي يجالسه الرجال الكبار والنساء والأطفال ليسمعوا إلى حكاياته العجيبة. أحس أنه في دور جنوني، وتأهب للتعبير عن قناعاته وتوجهاته أمامهم. أخذ ممكنا يمرر الحديث بسلاسة وبتعبير أقل غرابة من السابق. ثم أخذ بعد ذلك من جيبه ورقة زرقاء وأخرى خضراء ووضعهما على الطاولة أمامه، وسعل سعالا خفيفا استعدادا لأخذ الحديث، وقال:
_ انظروا إلى هاتين الورقتين، واحدة زرقاء تمثل عندي البحر، وأخرى خضراء تمثل عندي الشجر، وكل واحد منكم تمثل عنده شيئا يرغبه، فمثلا....
قاطعه شيخ كبير، كان يقرب إليه من جهة أمه، حيث زاد هذا الكلام من هياجه ونقمته على التهامي، وأنه ضرب من جنون العصر الذي يصاب به شباب اليوم، قائلا:
_ إننا لنراك يا بني قد فقدت أغلى ما لدى الإنسان، وهو العقل. ونطلب من الله لك العفو والسلامة .
وقف التهامي وقد ازداد حنقا وغدا كهيكل مزعوم ألبس ثيابا حديدية. صحيح لم يكن يواجه أحدا بما فيه، سوى بعض الأحيان كان يشتم ويتوعد من يثير غضبه وسخطه وكأنما انتقل عويل الأرامل وراءه إلى هذا البيت. إلا أنه بدا كثير الغضب واسود وججه كعشب قتلته الشمس بحرارتها واعتاد على النمو في الظلام. أحس الحاضرون بما فيهم الشيخ الذي وصفه بالجنون بأنهم يجب عليهم أن ينقذوه مما هو فيه من مرارة وخبث التفكير والسطوة الفريدة للعرق والظلام، للحر والخوف ....
على مقربة من نهاية الشارع كان قدرا معلوما... تعب مكون من الأنين والخوف والموت.... خمس شبان يستولون على طريقه لأول مرة، يحون إليه بأنهم يمنعون تقدمه ويغيرون وجهة خطواته إلى دهاليز دروب ضيقة تشع صداعا وصراخا كأنه في حمام شعبي. كلمات نزلت عليه كالصاعقة، لم تخطر بباله، كان الشبان الخمسة يصرخون بأعلى أصواتهم. ساءل نفسه باستغراب شديد: "ما هذا الجنون الذي يعرفه مجتمع الشجر والنبات؟". لم يلبث شيطانه أن وجهه بالتردد فعاد إليه إحساسه المألوف بأنه معارض قوي لكل الأحزاب في الطبيعة لم يعرف الفشل ولا الناس الأغبياء قيمته الحقيقية الكامنة وراء هذا الجسد المالح. وأنه هو شخصيا يشارك في البحث عن موقع نفسه وموقع الوطن في قرية العراة والممسوخين .
الآن فقد تأكد بأن الناس يتجرأون عليه وعلى التحرش به بشكل مباشر. ذلك الذي أكد شخصيته القوية عندما أعلن معارضته التي وضعته على ربوة نائية من وطنه، وأبعدته عن عيون الكل في جزيرة مهجورة. لم يستطع أحد منهم أن يصل إلى خيالاته وتوجهاته. زاد في عمق إحساسه أن البعد أشد سمكا من حائط برلين هو الذي يفصل بينه وبين جبناء وطنه .
ألقى التهامي بنفسه على السرير، أسند رأسه على المخدة وفكر بالحماقات والتصرفات الغريبة التي ارتكبها. كان يظن أن الشباب والحيوية كفيلان بوضع حد لكل التخيلات والانفعالات التي كان يحسها ويعلنها في بعض الأحيان. وبفسح المجال لتفاهم أكيد ومتقابل يبدو فيه الحوار الملجأ الوحيد .
ولم تلبث أسماعه أن أَلِفت القذف والاتهام فخلع معطفه وطربوشه ووضعه إلى جانبه وأخذ من خزانة كتبه كتابا متوسط الحجم وتناوله بالقراءة. أحس أن القراءة والراحة يصنعان إنسانا آخر لا يشق له غبار، ولا يقدر عليه أحد في مجال السياسة، بينما قام والكتاب مازال يستولي على راحتي يديه ونظرات عينيه، يتحسس الفراش على الرف لعله يجد في وسطه ما يستمع إليه أو يراقبه. ولما لم يعثر على أي شيء مما يظن، عاد إلى حيث كان منبطحا، وأخذ يحملق في أركان البيت ومكوناته. ارتفعت درجة حرارة المكان ونضج مستوى العرق، وكانت أصوات الحشرات الليلية تعانق خوفه المقدس، وهو يشعر أن قلبه تتردد فيه المواهب العتيقة .
لم يدر أنه قد نسي شيئا مهما لم يعلنه على أسماع الحاضرين، كان يحضر له قبل لقائهم. هناك، تتاح الفرص، وعندما لا تكتسب، تصبح مجرد أحلام تعيسة، إنه في عمله هذا كمن يغرق في أعالي البحار وهو على متن قارب صغير. كان عدم المبالاة في خاطره، وبعد أن وضع الطعام على الطاولة الخشبية، أحس بالذل والمهانة، بالوحدة الملعونة، بدا وكأنه يعود إلى الطفولة ليعيد السفر من جديد إلى عالم الأحاسيس والجرأة وال.....