أنا لم أسمع باسم مدينة كبريا أو أقرأ عنها في كتب الجغرافيا أو كتب البلدانيين أو هواة الترحال ، كما أن الشيخ جواد السحبان الذي كان يجالسنا نحن المراهقين الكسالى عند ساحة محلة الحارة الصغيرة الضيقة في مطلع الستينيات لم يذكرها ، وهو يتشدق بعشرات الأسماء الغريبة ، التي كان يصادر فيها غفلتنا وتشوّفنا إلى كل ماهو عجيب يدر ّ لعاب شهيتنا المتقدة ؛ إذ كان في معظم الصباحات الشتائية يأخذنا إلى مباذل سياحاته المزعومة ، بعد أن حضر أول مرة وحل بيننا شيخا ً ثمانينيا ً ضئيلا ً ، يتدثر ُ بفروته المصنوعة من جلود الخراف والمصبوغة باللون الأحمر ، الذي لم نكن نعرف تركيبته مطلقا ً . أما كيف نسبت هذه الحكاية إليه بعد خمسين عاما فهذا ما ألهب شهيتي وأشعل أوارها .. ففي حديث ٍ عابر جرى قبل شهر واحد من الآن ، ذكر لي جابر راهي وهو شريكي في تلك الملتقيات الصباحية المنقرضة ، وقد أصبح في الرابعة والستين الآن أن العجوز ؛ جواد السحبان رواها لنا في ساحة محلة الحارة ، قلت له: ولكنني لا أذكر مع أن كل ما رواه منقوش ٌ في رقيم الذاكرة التي لايبلى . ثم أن بعض مفاصل هذه الحكاية وكما تناقلتها مواقع الانترنيت لاتنتمي إلى ذلك الزمان ، هل كنا نعرف الأم تريزا ونلسون مانديلا والانترنيت والاحتباس الحراري ، فقال : لا ولكنني أحيل على أصل الرواية كما تفوه بها عمنا جواد السحبان في تلك الأصبوحة ، إذ مازلت أذكر طريقة نطقه لاسم مدينة كبريا ، التي ذكر أن الأحداث جرت في بيوتها وشوارعها وميادينها ، وبين سكانها المنبهرين بما حصل .. قلت ُ هل ذكر أن اسم هذه المدينة هو كبريا ، قال : نعم ، هذا ما تحتفظ به ذاكرتي ، ثم أن جابر راهي روى ملخص ما زعم أنه صورة لرواية الشيخ فقال : قال جواد السحبان ، أنه شاهد في مدينة كبريا مظاهرة ً يقودها الأطفال بين سن الثالثة والسابعة ، تجمعوا أولا ً في ساحة ٍ كبيرة من دون أن يرافقهم أحد من ذويهم ؛ وهم يمضغون لهّاياتهم ويرتدون حفّاظاتهم ويحملون مميّاتهم ولعبهم ، تتصدرهم طفلة في الخامسة تحمل لافتة من ورق الكارتون مثبتة على مسطرة خشبية بطول نصف متر ، مكتوب فيها باللون الأخضر (( طيور الجنة )) . وحين دقت ساعة المدينة معلنة الثامنة صباحا ً تحركوا ببطء ٍ ووقار باتجاه مقر الحكومة في حين جعلت حواري المدينة وأزقتها تفيض بالمزيد من الأطفال الذين سرعان ما جعلوا ينظمّون إلى الموكب وينخرطون في مسيرته ..أما الآباء والأمهات الذين كانوا يجرون خلف الصغار منبهرين ، فأنهم اكتفوا بالوقوف على الأرصفة أو محاذاة مسيرة أبنائهم من دون أن تطرف جفونهم .
وفطنت تلك اللحظة إلى أن كل ما رواه يكاد يتطابق تماما ً مع ما بات معروفا ً ومتداولا ً بين كل من أطلع على رواية الموقع الالكتروني . الذي نشر الخبر أول مرة في شهر تموز من عام 2009 ، زاعما ًأن مراسلا ً صحفيا ًمن مدينة كبريا العاصمة ، شاهد مظاهرة ً عجيبة ً قام بها أطفال صغار تقدمت إلى دار الحكومة ، وأن الأطفال أعلنوا اعتصاما ً في ساحة مقابلة للدار ، وطلبوا مقابلة رئيس الحكومة ؛لكن رواية المراسل الصحفي قوبلت بتحفظ مرير ، وتكذيب ٍ صارخ من قبل متصفحي الموقع أول الأمر ، لولا أن شهود عيان آخرين تدخلوا ، ونشروا رسائلهم .
كانت إحدى هذه الرسائل تؤكد أن المظاهرة حصلت فعلا ً ، وأن الصغار قدموا عريضة من ثلاث صفحات تتضمن مطاليبهم واعتراضاتهم وملاحظاتهم ، لكن رئيس الحكومة الذي خرج أخيرا لإلقاء نظرة ٍ على حشدهم ، أرعبه مرأى المراسلين الصحفيين الذين خفّوا إليه بكاميراتهم ومايكاتهم وعيونهم الوقحة ؛ حتى أن مراسلة من وكالة break تعثرت وسقطت بين أقدام الرئيس ، فمد يده إليها وألتقطها ؛ لكنها صرخت في وجهه : شكرا ًأيها الرئيس ، ولكن هل أطلعت على عريضة الصغار ؟ وبدلا ً من أن يجيب على سؤالها ، اكتفى بالقول : إنني أعتقد أن الآباء هم المسؤولون عن هذه الفوضى . ولكن دبلوماسيا ًمن احد بلدان العالم الثالث صرح قائلا ً بأن عريضة الأطفال تحتوي على ثلاثة محاور. الديباجة : وهي تذكرة محتشدة بآراء وبأسماء دعاة السلام والمحبة في التأريخ وفي العالم ، منهم الأنبياء والمصلحون وفلاسفة الجمال ، وابن خلدون وجان جاك روسو وغاندي والأم تريزا ونيلسون مانديلا وغيرهم . ومحور الطلبات وهو يتلخص بدعوة الكبار إلى الكف عن إشعال الحروب والعمل على توفير الطعام لكل فم في العالم ، وأحياء شعار من أين لك هذا ، والتوقف عن تغذية كارثة التلوث والاحتباس الحراري بالمزيد من الزفير المسموم ؛ مراعاة ً لتوازن الغازات الإلهي على وجه الأرض ، وأشياء أخر ذات علاقة بكرامة الجسد الإنساني على تراب المعمورة ، كما أنهم طالبوا بتخلي الأمم المتحدة عن خرافة وصايتها على العالم ، ساخرين من الأساطير المعمرة مثل مجلس الأمن وحق الفيتو وتنصيب أمريكا نفسها شرطيا ً على العالم . أما التوصيات فقد تألفت من فقرتين أوصت الأولى بالعمل على تشكيل مجلس عالمي يضم الأطفال الرضع ومن هم دون سن السابعة من الجنسين ، ويكلف بوضع دستور جديد موحد يقود البشرية .أما الثانية فأنها أوصت بضرورة عقد مؤتمر موسع لعلماء الطب والوراثة والبيولوجي والاجتماع والنفس ؛ مهمته دراسة إمكانية ترشيد الغرائز ولاسيما غرائز الجنس ، والشره ، والتملك ، وتأسيس مراكز بحثية في جميع أنحاء العالم للاستفادة من خبرة الأطفال والحيوانات تكون مهمتها إبداء النصيحة للكبار من آباء وأمهات ، ومراهقين ورجال أعمال وموظفين وحكومات ومثقفين .
أما مهند يحيى* وهو شاب متحمس من محلة القلعة، فقد زارني ليلة الجمعة الماضية ، وأدعى بأنه شاهد على موقع وصلة فيديو أظهرت عددا ً كبيراً من الحيوانات الأليفة وهي تحتشد حول مكان الأطفال مشكلة ً ما يشبه المصدّ أو الطوق الأمني . وقال إن الخيول والحمير والخراف والكلاب والقطط ، بدت قلقة مستوفزة تجول في المكان، وتتلفّت في كل اتجاه ، ولم تسمح لأفواج الآباء والأمهات باختراق منطقة تجمع الصغارالمحرّمة .
في المساء ذهبت ُ إلى مركز علي في شارع الأربعين وهو أفضل مركز لخدمات الانترنيت في تكريت، ومكثت مدة ساعتين أبحث عن وصلة الفيديو المزعومة وفي الطريق إلى الحظوة بها ، قرأت أخباراً جديدة في أكثر من موقع ، وأهم ما أثار انتباهي منها ، تضارب تعليقات زوار أحد المواقع حول رواية مجهول ، أفادت بأن مظاهرة أخرى خرجت من شوارع المدينة وحواريها وأسواقها ومدارسها ؛ تضم أولادا ًفي سن الدراسة الابتدائية والمتوسطة تتراوح قيمهم العمرية بين سن الكمون وسن المراهقة . هؤلاء حملوا لافتة ًمكتوبا ً فيها باللون الأحمر ( أوقفوا هؤلاء الزعاطيط لأننا الآن فقط أبصرنا بداية الطريق ) ثم قرأت تعليقا ً لمراهقة منفعلة ، سمت نفسها ( قارورة عطر ): ماذا يريد هؤلاء الصغار ، انهم كالحيوانات ، أما نحن فلنا مواعيدنا مع الحياة . فعلق على ملاحظتها شخص ، شممت من إجابته رائحة السخرية ( لماذا لم تقولي أن موعدك ِ مع صديقك عنبر ياقنينة عطر ) .
وفي حمأة التجوال المتسارع ، رأيت ُ خبرا ً، وأنا أتصفح صحيفة ً أجنبية يقول : إن ذلك التجمع انفرط عقده حين حضرت قوة من الشرطة ، ترافقها ثلة ٌ من ذوي الأطفال ، ويتقدمها محافظ المدينة ومدير شرطتها ، وكان ذلك عند الساعة الثانية ظهرا ً، لكن المشكلة التي واجهتها المدينة تتمثل في رفض الحيوانات الابتعاد عن المكان والعودة من حيث أتت ، بعد أن تسلم الآباء والأمهات أطفالهم .ولم يذكر الخبر ما الذي حصل للحيوانات بعد ذلك .
ولكنني في ليلة لاحقة شاهدت فيلما ً وثائقيا ً عن مادة أعلانية ، دأبت قناة تلفازية على عرضها في معظم فواصلها الإعلانية ، وكنت ممن يشاهدون هذه المادة في كل مرة ٍ أعرّج ُ فيها على تلك القناة ؛ فأستيقظ خاطر ٌ ما وأشعل جذوة الفضول في نفسي ، ثم عن ّلي أن أسأل صديقي الستيني جابر راهي ، فهاتفته ليلا ً ، ثم سألته إن كان قد شاهد سابقا ً فيلما ً يظهر ُ أطفالا ًرضّعا َ وهم يرقصون ويؤدون حركات رياضية خطيرة واللّهايات في أفواههم ، فأجاب بنعم . وفي الصباح عند الساعة الثامنة والنصف زارني في البيت مغاضبا ً ، وباغتني بسؤالٍ أيقظ لديّ مراجعة ً من نوع آخر ، قال : هل تريد أن تقول أنني تأثرت بهذا الفيلم فاختلقت رواية الشيخ جواد السحبان ، قلت ُ : لا أدري ، ولكنني لا أستبعد أن نكون قد سقطنا – أنا وأنت – من الشاهق الواقعي ، وتخطّفتنا حبائل مجرّة ٍ حلميه ٍ لاهية .
.....................................
* مهند يحيى :- هو الشاعر مهند التكريتي
رد: من أواخر ماكتبه القاص العراقي الكبير : فرج ياسين
ألف أهلا و سهلا بك أستاذي مهند
لقد أجدت الاختيار حماك الله فنقلت لنا هذا الموضوع اللطيف
فقط اسمح لي بنقله لقسم المكتبة ؛ ليتسنى للجميع الاطلاع على هبوط الطيور من الجنة
لك و لأستاذي القاص فرج ياسين تحياتي و تقديري.