لا، أرجوكما لاتقتلاني، صرخة من قلب جريح ملأت الفضاء الرحب الساكن في عتمة الليل واهتزت لها النجوم الساهرة.
الأصدقاء الثلاثة تجمعهم المحبة والألفة، منذ سنوات وهم يتواعدون ويخرجون في نزهات إلى أطراف البلدة في الساحل الغربي، تارة في النهار حين يكون الجو لطيفاً ومرات أخرى في المساء، حيث عبث النسائم العليلة بالأشجار والرمال، ومداعبة الوجنات السمراء الزاحفة نحو الحياة
الهادئة، تحت ضوء القمر الذي يتنسم قبة السماء صامتاً يرقب النجوم ويستمتع بغزلها، كان شبلي أكثرهم رعونة وعبثاً في حياته يتمتع بحيوية ونشاط دائم، ذو بينة جسدية قوية طويل القامة وعريض المنكبين، امّا شريف فكان هادئاً قليل الكلام يعمل موظفاً في شركة خاصة،
يقضي معظم أوقاته بعد الدوام في مقهى الحي الذي يقيم فيه، وخالد الذي يتندر دائماً على زملائه ويمطرهم بنكاته البذيئة التي كان يستمع إليها من الوافدين، أسمر البشرة وعيناه تدوران في مقلتيه كانهما تبحثان عن شيء ، يعمل في مرآب لبيع وشراء السيارات.
تواعدوا على الذهاب ليلاً إلى السهل القريب من المدينة على أطراف طريق الساحل الغربي، لأول مرّة كان شبلي متحمساً جداً لهذه النزهة، فقد حصل على لترين من الوسكي الأسكوتلندي الباهظ الثمن، ففي المرات السابقة التي كانوا يخرجون فيها يشربون البيرة الألمانية او الكنياك
الفرنسي، لكن هذه المرة تختلف فهي بنظر شبلي ستكون سهرة فخمة، سيلعب الكأس بالرؤوس والنشوة ستصل مداها الأقصى،وسيهذر بما يريد دون خجل أو وجل،كان يغمز شريف منذ الصباح إحساس طاغ بإنه سيواجه ليلة مختلفة، صحا على غير عادته نشيطاً، تمايلت زوجته
المستلقيه جانبه ، وخز خصرها بسبابته وطلب منها أن تعد له الشاي الذي يستمتع بارتشافه كل صباح، ريثما يغسل وجهه، كان يتمتم وهو يسير إلى الحمام" سأطلب من المدير إعطائي إجازة هذا اليوم، إذا حصلت عليها سأعود إلى النوم لأتمكن من السهر مع
صديقيّ هذه الليلة، على غير عادته أيضاً نهض خالد غسل وجهه بسرعة ثم عاد إلى دواليب ملابسه فتحها وأخرج دشداشته الرمادية اللون إرتداها، وقف امام المرآة نظر إلى نفسه إبتسم، دندن لحناً لشاعر الساحل الراحل" مشعمـل"! فيما مضى كنت مزلف، واليوم شاعر مكلف، بينما
كان يصلح من العقال على رأسه.
شريف الذي زج بهذه الصحبة منذ سنوات، هيأ نفسه لهذه النزهة المتميزة كما أسرّ له شبلي.
قبل الغروب بقليل إلتقى الأصدقاء إتفقوا على ان يذهبوا بسيارة خالد التي اشتراها قبل شهر من معرض السيارات الذي يعمل به، سارت السيارة على طريق الساحل الغربي تشق الهواء بسرعة جنونية فالجميع يريدون الوصول بسرعة إلى مكان سهرتهم المعتادة.
جلس الثلاثة تتوسطهم زجاجتا الوسكي،ومكسرات وعلب من المشروبات الغازية، دارت الخمرة برؤوسهم ضحكوا تمازحوا، فجاة اختلفوا ،كان شريف يريد ان يعود باكراً إلى البيت كي لايترك زوجته وحدها، لكن[ خالد وشبلي]! رفضا ؟ الحَّ عليهما أسكتاه، تشاتموا، وتراشقوا
بكلمات بذيئة، ثم مالبثوا أن تراشقوا بالحصى والكؤوس، ضرب شريف زجاجة الوسكي بقدمه فانكسرت واندلق مابداخلها على الرمال، عندها جنَّ جنون [شبلي وخالد] إستل شبلي سكين الفاكهة من امامه وطعن شريف في خاصرته تبعهُ خالد أيضاً، إرتمى شريف على الأرض
وهو يصرخ ويستغيث ويسترحمهما لكنهما لم يتوقفا عن طعنه حتى فارق الحياة.
عاد خالد وشبلي إلى بيتيهما بعدما اتفقا على ان ينكرا وجود شريف معهما تلك الليلة وانهما سهرا في مكان آخر يبعد كثيراً عن المكان الذي وجد فيه شريف، في حين إكتشاف جثته وسؤالهما عنها.
ذهبت زوجة شريف إلى بيت أهل زوجها وأعلمتهم عن تغيبه عن البيت طوال الليل، تقدم شقيقه ببلاغ إلى مركز الشرطة،ثم قامت الأجهزة الأمنية على الفور بالبحث والتقصي حتى أكتشفت جثته.
إستعانت الشرطة بقصاص الأثر أبي عدنان محسن القرشي، ذهب عاين المكان سجل في ذاكرته آثار الأقدام على الأرض وتتبع وجهتها حتى وصل إلى آثار كفرات السيارة، اعلم العميد عبد السميع قاضي رئيس قسم الشرطة في حي الكعكية بمكة المكرمة ان القاتل أكثر من واحد فآثار
الأقدام التي وجدت عند مكان توقف السيارة تدل على انهما إثنان، تعرف شقيق شريف على جثة شقيقه وأعلم الشرطة أثناء التحقيق عن صداقته لكل من شبلي وخالد، وعندما إستدعاهما الملازم أول عبد العزيز السميح وحقق معهما أنكرا وجوده معهما في ذلك اليوم، بل انهما إلتقيا
في النهار وسهرا سوياً وحدهما.
لكن المفاجاة كانت عند خروجهما ومشاهدة أبو عدنان محسن القرشي لهما ولوقع أقدامها هرع من فوره إلى العميد عبد السميع،وطلب منه إلقاء القبض عليهما لأنهما قتلا شريفاً، وعندما ضُيّق الخناق عليهما أثناء جولات التحقيق وبعد التقصي والتدقيق ومواجهتهما بأن المكان الذي
يدعيان انهما ذهبا إليه لم يراهما أحد فيه وان آثار الأقدام تتطابق مع أقدامهما ،. أعترفا بقتل شريف أثناء فورة غضب وهما في حالة سكر شديد.أ.هـ.
نزهـــة المــوت
آخر تعديل علي خليل الشيخي يوم 08-08-2012 في 06:18 PM.
قررت أن أكتب هذه القصة ضمن كتاب يحوي قصص أخرى ، وأستندت بها إلى وقائع حقيقية وحوادث حصلت مع الرواية وقاص الأثر الشهير في الديار الحجازية محسن القرشي أبي عدنان،حصلت معه ومع أناس عايشهم طيلة مدة طويلة، قضاها في خدمتهم، كقصاص أثر في
سلك الشرطة، على الرغم من راتبه الزهيد، الذي لم يكن يفي بأبسط حاجياته، إلا انه آثر ان يكون عوناً لرجال الشرطة وفي تقديم المعلومة والمشورة في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق العدالة التي هي غاية كل إنسان شريف.
وبرأيي إن هذا الكتاب لايشكل إلا جزءاً يسيراً من مكافأة أبي عدنان على مافعله في حياته فهو يحتاج إلى مجلدات حتى ترصد كل حياته المهنية الطويلة، والتي بذل فيها الغالي والنفيس وزهرة شبابه، لتحل الطمأنينة والأمان، ولايبقى المجرم طليقاً يعيث فساداً في المجتمع،
وبالمقابل حتى لايتهم برئ صادف وجوده في مكان جريمة القتل! او السرقة! او الإغتصاب! وغيرها الكثير من الجرائم التي كان " محسن القرشي" سبباً في تبرئة أشخاص كثر، من خلال الكشف عن الأثر ومعرفة الفاعل الحقيقي،.
وأرى أيضاً ان هذا الكتاب " مذكرات قاص أثر" هو إحياء لذاكرتنا الشعبية وموروثاتنا التي كادت تندثر في خضم هذه التغيرات على المجتمعات البشرية كافة ودخول الفضائيات إلى بيوتنا والإنترنت،
وقد صغت القصص بأسلوب فني حديث استخدمت" أسماء وهمية حتى تكتمل مقومات القصة وحاولت بإمكاناتي المتواضعة" أستاذة سولاف هلال"،. إضفاء التشويق والإثارة كي يستمتع القارئ،
وأوردت اسماء لأماكن حقيقية واخرى متخيلة،.
لكن موضوعات هذه القصص حقيقية وحدثت بالفعل كما تفضلتِ أستاذة سولاف.
ودور محسن القرشي أبي عدنان فيها حقيقي أيضاً.
أخيراً هذا الرجل الذي تجاوز السبعين بحاجة إلى رعايتنا واهتمامنا، خاصة وأنه مازال يتمتع بذاكرة قلما تنسى الأشياء.