وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحي والقيوم من له صفة كل كمال وهو الفعال لما يريد8.
ما أعظم القيوم! وما أعظم القيام بأمر الكون، وما أعظم الكون! كل شيء يجري بأجل لا يتقدم ولا يتأخر {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء: 33]، وهكذا القيام بشأن المخلوقات من الأنفس المنفوسة وتدبير أمورها وحفظها {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ}[الأنبياء: 42]، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62]، وفي هذا الموضوع كلام كثير، وآيات عظيمة لا يتسع المقام لذكرها..
فحقيق باسمين احتويا على معاني جليلة أن يكونا بهذه العظمة، من دعا الله بهما استجاب الله دعوته.
3. (لا تأخذه سنة ولا نوم) أي لا تغلبه غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة – وهي الغفلة أو النعاس- ولا نوم، فقوله: (لا تأخذه) أي لا تغلبه (سنة) وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال: (ولا نوم)؛ لأنه أقوى من السِنّة، وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)9.
فمن تمام حياة الله وقيوميته أنه لا ينام ولا ينعس عز وجل فإن قيام السماء والأرض وما فيهما به، لا إله إلا هو ولا رب سواه..
4. (له ما في السماوات وما في الأرض) أي كل من في السماء والأرض من الكائنات جميعاً ملك له، وتحت قهره وأمره وقدره عز وجل يقول للشيء (كن فيكون).
5. (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وهذا من كمال قهره وسلطانه؛ فإنه لا يجترئ أحد على نفع أحد يوم القيامة ولا يشفع له! إلا بإذن من الله، كما قال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }[الأنبياء: 28]، وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}[النجم: 26]، وذلك أن في ذلك اليوم تنقطع اللسان عن الكلام، ولا يكون التصرف والأمر إلا لله تعالى.. فلا بد من إذنه بالشفاعة ورضاه عن المشفوع، ومن هنا أخذ العلماء شروط الشفاعة حيث قالوا: الشفاعة لا تحصل لأحد إلا بشروط وهي:
- رضا الله عن المشفوع.
- رضاه عن الشافع.
- إذن الله للشافع أن يشفع.
أما الشرطين الأوليين فيدل عليهما قوله تعالى: {.. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] قوله: {ويرضى} فإنه تعالى يرضى للشهيد أن يشفع في سبعين من أهل بيته، ويرضى عن المشفوع لهم.. ويدل على الشرط الثالث: قوله: {أن يأذن الله} وقوله هنا في آية الكرسي: {إلا بإذنه}، والله أعلم.
6. (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وهذه هي الإحاطة الشاملة، والقدرة الكاملة على كل شيء، وعِلْمُ الأمور بكلياتها وأجزائها، وقوله: (ما بين أيديهم)، الحاضر والمستقبل و(ما خلفهم) الماضي، فقد أحاط بالأزمنة والأمكنة كلها علماً، ولهذا قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سبحانه وتعالى.
7. (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) أي لا يحيط أحد بشيء من علم الله تعالى، ولا يمكن أن يحيط به، والإحاطة تعني استغراق علم المعلومات كلها بجزئياتها وكلياتها، وإذا كان الله قد قال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} فكيف يقدر أحد أن يحيط بذلك العلم الكبير، وذلك السر الكوني الرهيب، الذي لا يطلعه الله إلا لمن شاء من رسول، وبأي وقت شاء ذلك؛ كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن: 26-27]، والغيب هم من علم الله الشامل، فمن شاء الله فتح عليه من العلوم والفهم والإطلاع والإدراك، ومن شاء منع عنه ذلك، كل ذلك لحكم عظيمة وغايات جليلة.
وما يتبجح به علماء الغرب اليوم من غزو الفضاء، واكتشاف بعض الأمور التي هي ظاهرة، إنما غاية الأمر أنهم رأوها أو صعدوا إلى سطح كوكب من كواكب السماء بعد مشقة وعناء طويل، وإهدار وقت ثمين، وأموال هائلة، وكل ذلك قليل من قليل من علم الله الكبير.. وهم يعترفون بذلك، حيث يرون فساحة الكون وعظمته وملايين النجوم والكواكب وهم لم يصلوا بعد إلا إلى كوكب أو كوكبين!! فسبحان الله العلي العظيم..
8. (وسع كرسيه السماوات والأرض) اختلف العلماء – من أهل السنة- في معنى الكرسي هنا:
ورد عن ابن عباس أن معنى الكرسي: علم الله تعالى ورجحه الطبري قال: ومنه الكُرَّاسة، التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسيّ؛ لأنهم المعتمد عليهم كما يقال: أوتاد الأرض.
وقال جمع من العلماء وهو الذي عليه الأكثر:- إن المقصود بذلك كرسي حقيقي لله تعالى، وقد ورد في بعض الآثار أنه موضع قدمي الله تعالى، وهو بجانب العرش، كحلقة ملقاة في فلاة الأرض.. وقد وردت آثار في صفة الكرسي ونسبته للكون، ونسبته للعرش لا داعي لذكرها هنا.. لضعف كثير منها، والله أعلم. وهذا الكرسي يليق بجلال الله تعالى وعظمته، وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء؛ كما قال القرطبي..
ومعنى الآية على القول المشهور: أن الكرسي سعته أعظم من السماء والأرض؛ كما جاء في الأثر أن السماوات والأرض بالنسبة للعرش إنما هي كسبع حلقات ملقاة في ترس. وطريقة السلف في ذلك أن تمر كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
9. (ولا يؤوده حفظهما) أي لا يثقله حفظ السماوات والأرض، وما فيهن من مختلف المخلوقات، بل ذلك سهل عليه كما قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحـج: 70].
وفيها إشارة إلى ما تقدم من أن الآية هذه تقي العبد من شرور الشياطين، فإذا كان الله لا يثقله حفظ الكون وما فيه، فإنه قادر على حفظ العبد المؤمن الذي تذكر هذا المعنى العظيم بقراءته هذه الآية، وتفكره بها واعتقاده بحفظ الله له..
10 - (وهو العليُ العظيم) (العلي) بذاته على عرشه، فوق جميع مخلوقاته، وهو مع هذا العلو لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وعليٌ بقهره، وسلطانه، ومشيئته عز وجل فلا راد لأمره ولا معقب لحكمة، ولا متحكم على قدره فله الحكم والأمر تبارك الله رب العالمين. وعليٌ علو قَدْر ومنزلة فله الأسماء الحسنى والصفات العلى.
فهذه ثلاثة أنواع للعلو: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدْر، وكلها يدل عليها أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما علو الذات فقد قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الجارية- للجارية: (أين الله؟) قالت: في السماء، فقال لسيدها: (اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم10. ومعنى علو الذات: أن الله تعالى فوق جميع مخلوقاته مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته ولا يجوز أن نشبه الله بخلقه في الكيفية لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11]. ودليل علو القهر: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام: 18] فقد قهرهم بتصرفه فيهم كيف يشاء لا يخرجون عن قهره وقبضته. ودليل علو القدر: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180] فإن أسماء الله تعالى في غاية الحسن، ولذا فمن عرف أسماء الله وفهمها حق الفهم كان ممن قدر الله حق تقديره.. وقد عاب الله على المشركين عدم تقديرهم له حيث قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام: 91] الآية. فهذه أنواع العلو الثلاثة مع أدلتها.
(والعظيم) أي عظم شأنه وخطره11.
وبعد الانتهاء من تفسير الآية وذكر فضلها لا يسعنا إلا أن نوجه النصيحة لإخواننا بالتفكر في معاني هذه الآية العظيمة؛ وقراءتها في الليل والنهار، كما جاءت بذلك الأحاديث والآثار، حتى يحفظ الله العبد من الشياطين، ويفوز يوم القيامة..
أسأل الله أن ينفعنا بما قلنا، وكتبنا، وسمعنا، وقرأنا, إنه قريب مجيب... والله أعلم.
منقول من عدة مصادر
______________________
1 المسند (21278)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
2 صحيح مسلم (810).
3 صحيح البخاري (2187).
4 المسند (27610)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن أبي زياد وشهر بن حوشب.
5 المعجم الكبير (7941)، وابن ماجة (3856)، وحسنه الألباني.
6 ذكره ابن كثير في تفسيره (1/291). ط/ دار الحديث القاهرة.
7 أضواء البيان (2/ 21).
8 شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة (ص: 81).
9 تفسير ابن كثير (1/291-292). والحديث رواه مسلم.
10 صحيح مسلم (537).
11 ذكره الشوكاني في تفسيره (1/345). ط/ المكتبة العصرية.