كنتُ أراه كلّ يومٍ تقريباً وهو يخرج ويعود الى منزله حيث يسكن في شارعنا الذي تنتظم فيه عدة منازل ، وكان يمشي مطرقاً رأسه الى الأرض لا يكلم أحداً إلا عندما يلقي التحيه على أحدهم وبكلمات مقتضبه خافته لا تكاد تُسمع وأحياناً حتى دون أن يرفع رأسه .
عدّهُ أهل الشارع شخصاً غريب الأطوار لذلك لم يتقرب إليه أحد ومن جانبه لم يتقرب إلى أحد فكثرت فيه الأقاويل ،فمن قال بأنه ربما كان معقداً ومصاباً بالتوحد لذلك لم تطقهُ زوجته فطُلقت منه منذ سنوات وهناك من قال بأنه ربما كان مريضاً بمرض خطير ولا يريد أن يطلع أحد على مرضه ومن قال بأنه رجل سياسي ولا يريد ان يعرف احد بتوجهاته السياسيه وأقوال اخرى لذلك أصبح هذا الرجل محط إهتمــــــام
الآخرين بسبب ذلك الغموض الذي أحاطه.
وبالرغم من عمري الصغير الذي يفترض بي عدم الإهتمام بأمور كهذه إلا أن الرجل وغموضـــه سيطرا على تفكيري فركبتني فكرة مجنونة لم أستطع إبعادها عن ذهني.
ففي صباح يوم رأيته يخرج من بيته كعادته كل صباح ، تابعته وهو يبتعد حتى اختفى فعزمتُ علـى أن أدخل بيته فهو في كل الأحوال لن يعود إلا بعد الظهر كعادته ، وبعد أن تأكدت من إن أحداً لم يرني قفزت مسرعاً من على سور البيت فوجدتني وسط حديقة غناء ، كان هاجساً يدفعني بقوة لأدلف إلــى داخل البيت ومعرفة ما في داخله لكن منظر الحديقه الجميله استوقفني قليلاً لتأملها ، كانت رائعــــــة بشكل كبير ومنظمه بشكل ينمُّ عن ذوقٍ رفيع راقِ ، كل نبته ، كل زهره مرتبه ومجذبه بشكل جميــــل ووسط الحديقه افترشها بساط جميل أخضر من العشب المتجانس اللون ، وقع نظري على البـــــــاب الداخلي الخشبي الجميل وكم كانت دهشتي كبيره عندما رأيته مفتوحاً بشكل قليل فشجعني ذلك علــــى سرعة دخوله ودخلت، وجدتُ نفسي وسط صاله واسعه مرتبة الآثاث ، نظيفه، كل شيء فيها يوحـــي بجمال الترتيب ، مرتباتها ذات الألوان الهادئه المريحه ، اللوحات الفنيه المعلقه علـــــــــــى الجدران وستائر حريريه تغطي النوافذ، وبعض التحف والزهريات وقد وضعت كل واحدة منها في مكانـــــــــها الصحيح ، وقعت عيني على بابين اثنين ، فتحتُ احدهما ودخلت لأجد نفسي داخل غرفة نوم كل مـــــا فيها يوحي بالكمال والسرير منظم كأن لم ينم عليه أحد ... يا الله .. كم هذا الرجل منظم رغم علمــــي انه يعيش لوحده وليس لديه خادم او من يساعده في أمور البيت ما عدا بعض الأصدقــــــــــــاء الذين يزورونه بين فترة وأخرى في أوقات متباعده ، خرجت من غرفة النوم لأدخل الغرفة الأخرى فدهشت لما تحتويه من كتب من مختلف الأشكال والأحجام وضعت في خزانات كبيره تغطي تقريبــــــــا جدران الغرفه ووجدتُ يدي تتلمس هذه الكتب بإعجاب كبير وسألتُ نفسي هل قرأ كل هذه الكتب ثم سحبـــتُ بعضا منها لأنظر ما فيها وكان آخر كتاب سحبته كان عنوانه غريباً عليّ،، سقط الزند ،، وسجل عليه أسم ،، المعري ،، قلبتُ صفحاته لأرى ما فيه ففوجئتُ بصوت حركة خلفي فإذا أنا بمواجهـــــــة ذلك الرجل صاحب البيت وهو يقف في باب الغرفة بهدوءه المعروف فتسمرتُ فــــــــــي مكاني ووقع الكتاب من يدي على ألأرض من هول الموقف ، لكنه وبعد أن تفحصني بنظره لثواني كسر حدة الموقــف قائلا ،، لا عليك .. لا عليك ..إهدأ .. لا يمكن أن تكون لصاً .. لا يبدو عليك ذلك .. لكنني أستغـــــــرب وجودك هنا ،، إستمر ذهولي وقدماي أصبحت لا تطيقان حملي ويبدو أنه لاحظ ذلك فبـــــــادر بالكلام مرة أخرى ،، إجلس أرجوك .. فلم أصدق ذلك فأسرعتُ بالجلوس على أقرب كرسي دون أن أنبس بكلمة واحدة فربما عيناي المسمرتان بالرجل تقولان الكثير ثم أردف قائلا ،، يبدو إنك تحـــــب الكتب .. نعم .. فالكتاب عالم خاص وساحر ،، تسلل إلى قلبي القليل من الإرتياح لكلماته تلك وتابع ،، فعلا إن الكتاب خير جليس للإنسان ، وهو صديق رائع ..إن مللته لن يملك ..،، قالها مع ابتسامه خفيفه بانت على وجهه النحيف لكنها لم تكن تكفي لإزالة كل اضطرابي الذي ملأني واستمر فــــــــي كلامه ،، أتعرف ..أن هذه الكتب التي أمامك أنقذتني من ضراوة الوحده التي تحيطني، هي أنيســــــي في كل وقت أريد ..ربما علمت بأني كنتُ متزوجاً ..و طلقتُ زوجتي منذ سنوات ..هذا ليس سراً الناس هنا في هذا الشارع يعرفون ذلك .. لكنهم لا يعرفون السبب.. كانت زوجتي فتاة جميله وزميلتي فـــي الكلية التي درستُ فيها .. نشأت بيننا قصة حب أنتهت بزواجي منها .. كنا في مرحلة الشباب التــــــي يطغى عليها الحماس .. أتدري ..اكتشفتُ بعد الزواج بأن الجمال والشهادة الجامعيه لا تكفي لصنـــــع زواجاً ناجحاً بكل المقاييس بل إن تآلف الأرواح مع الحب والإحترام هو ما يصنع الزواج الناجــــــح .. تفاقمت الخلافات فيما بيننا بعد أشهر من الزواج فقط حيث كانت تتصرف بشكل يثيرني ويستفزنـــي وخاصة في ما يخص هوايتي مع الكتب التي تراها امامك .. كتبي كانت اهم شيء في حياتي وكانـــت لا تهتم بها بل تتعمد اتلاف البعض منها دون علمي وكثيرا ما اعثر عليها وهي ممزقة بشكل متعمـــد .. كما إنها لا تبدي أي اهتمام لما أكتبه ... تصور وجدت بعض قصائدي التي تعبتُ في نظمها ممزقــة وعندما أسألها عن ذلك تجيب بكل برود بأنها اعتقدت بانها غير مهمه فمزقتها ورمتها في سلــــــــــة المهملات .. ثم تقول وبكل بساطة وصفاقه .. أكتب غيرها .. لن أطيل عليك ..لم نستطع الإستمرار في الزواج فطلقتها .. نعم طلقتها وقررت على إثر ذلك عدم الزواج مرة أخرى على الأقل في الوقــــــــت الحاضر وريثما أعثر على الزوجه المناسبه ..لكني لا أدري لم أكلمك بذلك ..،، صمت لحظة ثم أردف قائلاً،، الشعر .. هل تحب الشعر .. ،، لم أجبه وبقيتُ مسمرا في مكاني أنظر إليه دون أن أثيــــــــــر اكتراثه وتابع ،، الشعر عالم خاص رحب من الخيال وإن اعتمد على أرضية الواقع .. الشعر يجعلــك تحلق في الفضاء بلا أجنحه .. قد يكون كلامي هذا كبيرا عليك الآن ولكنك قد تفهم ذلك في المستقبل .. إعذرني .. لم أقدم لك شيئا على سبيل الضيافه لكنني سأهديك كتابي هذا .. ديوان شعري ،، وخطى نحو أحد الرفوف واستل منه كتاباً جميلا ناولني أياه بكل هدوء وقال بكل لطف أرجـــــــو أن يعجبك ثم تنحى جانباً وقال ،، تفضل لو أحببت أن تغادر ..لكن في المره القادمه أرجو أن تستأذن أولا في الدخول ،، قالها مع ابتسامه لطيفه أزالت كل اضطرابي فنهضتُ مسرعاً نحو باب الخــــروج لا ألوي على شيء ..
.....
تعالى تصفيق الجمهور عاليا بعد أن أكمل إلقاء بعض قصائده حيث وقفوا إكباراً لهذا الشاعر المبدع الذي كان يجيل بنظره الى هذا الجمهور الكبير المعجب بشعره وهو يمد يده إليهم ويصافحهم ويــــــرد التحية عليهم وهنا وقع نظره على رجل كبير السن كان يهم بالخروج من القاعه .. لم يعرف لمــــاذا أثار هذا الرجل إهتمامه فدفعته غزيرته في اللحاق به ولكن الجمهور الكبير كان يعيقه وأخيرا تخلص بصعوبة بالغه منهم ووصل الى باب القاعه ليرى ذلك الرجل وهو يهم بالصعود الى عربـــة للأجــــره وقبل أن يغلق بابها رمقه بنظره ثاقبه مع انطلاق العربه .. في هذه اللحظه تذكر هذا الوجه النحيف لذلك الرجل الغامض في حيهم القديم الذي اقتحم بيته في غيابه .. تحسر كثيراً لعدم اللحاق به فقـــــد كان لديه الكثير ليقوله لذلك الذي صنع منه شاعرا يشار إليه بالبنان .....
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 05-07-2016 في 11:44 AM.
سلاماً جميلاً أستاذنا
شكراً لهذا النّص الذي كان قصتين في قصّة واحدة ، شدّني اسلوب السّرد وفكرة القصّة لكن كنت أتمنى لو كان الجزء الأخير من القصّة هو الذي بدأتَ به النّص كي يزيد من بهاء النّص وإشراقه
ولك أعطر التّحايا
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
مرحبا يا صديقي الشاعر شدّني جدا ما قرأت حتى آخر حرف وللوهلة الأولى شعرت بأن الوصف ينطبق إلى حد كبير عليّ ههههه
هذه رسالة رائعة تخلق أجيالا من ذوي الذائقة السليمة والصحيحة وبالتالي مجتمع سليم معافى من التفسخ والتراخي والبغضاء والكراهية وحب القتل .. لو أن كل إنسان واعي مثقف متعلم أرشد طفلا أو عدة أطفال لوصلنا بعد حقبة من الزمن لنسبة عالية من الفضيلة والأخلاق .. بوركت يا صديقي سلمت اناملك وعقلك وقلبك .. لك تحياتي
التوقيع
أنا شاعرٌ .. أمارس الشعر سلوكا وما أعجز .. أترجمه أحرفا وكلمات لا للتطرف ...حتى في عدم التطرف
ما أحبّ أن نحبّ .. وما أكره أن نكره
كريم سمعون