منذ زمن بعيد احتدمت نار الحرب. وانطفئت بعد التهامها آلاف القتلى. مات فيها رجال كثر. والدي لم يمت في تلك الحرب، مع أنه كان متلهفاً لنيل الشهادة، كما تقول والدتي في كل محفل يأتي فيه ذكر اسمه أو يذكِّر أحدهم به، فتبادر والدتي لقص مسيرته وبطولاته في الحرب. عن نفسي أنا لا أذكر والدي جيداً، فأنا لم أره لأنه توفي بعد سنتين من مجيئي للدنيا. ولم تكن له صورة سوى الصورة الكبيرة التي تعلقها أمي في الصالة، الصورة التي يظهر فيها أبي بكامل أناقته، واقفاً خلف أمي التي كانت تغطي الصورة بفستان زفاف واسع. ولم أكن أشبهه إلى حد كبير، ولم أكن أشبه أمي أيضاً، وحين أسألها عن أي الفريقين أشابه من الأخوال والأعمام ،فترد ( أنت تشبه والدك ..انظر أنت نسخة طبق الأصل منه). ولكنني لم أكن مقتنعاً برأيها، وكنت أقول أنه مجرد وهم يغزو عقلها، لأنها فقدته فظلت تشتاق إليه وتتمنى هذا كما تتمنى الكثير من الأمهات، حين يعتقدن أن أبناءهن يشبهون آباءهم. الشيء الوحيد الذي كنت أعتز به، وقد اهدته لي أمي بعد ان كبرت، هو خاتم والدي الثمين. كان خاتماً ذا شذرة غريبة، تتفرع في تفاصيلها خيوط سود كأنها عروق. لون الشذرة كان فيروزياً بلون السماء، وعلى أية حال كانت برغم الغرابة في شكلها تبدو جميلة، وقد احببتها لأنها أرث ورثته من والدي. بعد أن عرفتُ أصلها ومن أين أتى الخاتم تمسكت بها إلى أبعد حد. فهي غنيمة اغتنمها أبي من يد جندي معاد.. كانت أمي تحكي كيف تصارع الجنود على الغنيمة ولكن والدي بقوته وشدة بأسه قد استولى عليها غانماً، ثم ارتداه بأصبعه لسنوات، متفاخراً على الرجال بهذه الغنيمة الجميلة الغريبة. العجيب أن حالة الفخر بهذا الخاتم بدأت تستحوذ على عقلي وقلبي وكلامي، لقد كنت أخرج الخاتم حين كنت صبياً للأولاد، يرونه في أصبعي مع اتساعه وعدم ثباته، لكنني لم أفرط به أو اضيعه يوماً. كنت أحكي للصبية عن خاتم أبي وعن تلك القصة التي روتها لي أمي، صحيح أنني كنت أبالغ مرة، ومرة أخترع حدثاً جديداً في قصة اغتنام الخاتم في الحرب. لكنني كنت كمن يريد إيصال فكرة هذا الفوز، والغنيمة الكبرى التي حصلت عليها أسرتي. لقد كنت متشوقاً حد الموت إلى ان أكبر وتصير كفي بحجم كف أبي، لكي يثبت هذا الخاتم في أصبعي، ويحق لي التفاخر به والحديث عن قصته. وماهي إلا سنوات حتى تمدد جسمي وكبرت كفي، وصار الخاتم جزءاً منها. لم افارقه حتى في النوم والاستحمام .وكنت إذا خرجت من المنزل برفقة أمي أو لوحدي كانت تسألني (هل لبست خاتم أبيك؟). فأجيبها (نعم...نعم...كيف لي أن أنسى هذا الشيء). حين خطبت لكي أتزوج كانت أمي مشغولة بسرد قصة الخاتم، وحين عثرت على وظيفة، كنت أحكي القصة للموظفين حتى ضجروا مني.. أعذرهم بالطبع لأنهم لم يفهموا قيمة هذا الشيء، وما يعنيه لي ولأسرتي. حتى أطفالي الذين جاءوا إلى العالم ،كنت أحكي لهم قصة اغتنام الخاتم، والبطولة التي صنعها أبي في المعارك. وأمي التي كانت تحكي لأحفادها القصة ذاتها حتى حفظوها عن ظهر غيب، وراحوا يكرروها على أطفال الحي في كل مناسبة. لم يكن ينقصني سوى صورة أخرى لأبي، غير صورة العرس الكبيرة. وكلما سألت أمي عن صورة أخرى كانت تجيب( لا توجد له صورة..آآآه...لقد كان وضعنا لا يسمح ..تعرف قديماً كانت الصورة تُلتَقط بصعوبة ). ومع كل هذه الإجابات من امي، قررت البحث عن صورة لوالدي، فلم أكن مقتنعا بكلامها، وبالفعل ذهبت إلى المصور القديم، أخذت اسم الاستوديو الذي يملكه من أسفل الصورة. كان المحل مهجوراً مترباً، وكان المصور جالساً على مقعد قديم، برأس أشيب، وعينين تختفيان وراء نظارتين كأنهما كعبا قدحين. سألته عن صورة عرس أبي مع تاريخها ورقمها، وإذا بالمصور قد تعرف عليَّ مباشرة. ثم راح يحكي عن الصورة واحداثها، وكيف أن أبي لم يكن يملك ثمن البذلة، وتداين بذلة لكي يرتديها في الأستوديو. تضايقت في الحقيقة من حديث المصور، لأنني أعرف جيداً أن والدي كان غنياً كما حكت لي أمي، بل كان ينفق على عوائل من الفقراء في الحي، فكيف يتداين بذلة في يوم عرسه !. ثم أنني قررت أن أصفع ذلك المصور كما صفعني بالكلام، فرحت أتباهى بخاتم والدي الذي ألبسه. وكيف أن الخاتم ظل باقياً ولم نفرط به، حتى بعد رحيل والدي وتلك القصة البطولية له في الحرب.. ضحك المصور واستفزني جداً بضحكته ثم قال لي( من اخبرك بهذا ؟). اجبته فوراً ( أمي بالطبع ...ليست أمي بل الجميع يعرف بهذا). رد المصور بكلمات منهكة ( والدك لم يلبس خاتماً في حياته ). دقَّ قلبي بسرعة غيضاً من كلام المصور، وهتفت في وجهه (انت تكذب...انت تغار وتحقد على الأبطال لأنك مصور هرم تعيش بين الأتربة). رَبَّتَ المصورُ على كتفي وقال (تعال هنا). دخلت إلى مخزنه القديم وظل المصور يبحث بين الأغراض، يبحث ويبحث وأنا أسترجع كل لحظة وكل كلمة قد مرت علي لساني وفكري طوال السنوات الماضية. حتى هتف المصور (ها هي..). ثم اقبل نحوي ووضع في كفي صورة عتيقة، وأشار بأصبعه قائلاً (هذا أنا). ظهر فيها المصور شاباً يجلس على كرسي بباب محله، حاملاً كاميرا قديمة، ويجلس إلى جنبه على الأرض رجلٌ معاقٌ بلا ذراعين، ذو ملابس بائسة رثة... كانت ملامح الرجل المعاق، شبيهة بملامح الرجل الواقف وراء أمي في صورة الزفاف.
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ
ربَّت وبقيت تزرع الحب والبطولة رغم معاناتها في الداخل
كنت أتمنى أن لا يعرف الحقيقة ويبقى في عيون ابنه ذلك البطل الذي حصل على تلك الغنيمة
في حياتنا الكثير من هذه الصور تعيش معنا ولا يمكن تغييرها
حياك الله قصة معبرة ذات مغزى عميق
عندما نصطدم بالحقيقة تتكشف لنا امورا كانت ضبابية
وعندها ننقسم الى فريقين فريق كاره وفريق محب
الكاره يتجه لتحطيم كل قديم
والمحب يتجه للبحث عن كل جميل
وهذا حال الدنيا
احسنت ايها الاديب البارع
شكرا لقلبك ..حياك قلبي
يا الله
قصة مكثّفة بتفاصيل الاحداث وجمالية السرد جعلت المتلقي يتابعها دون ملل
قفلة رائعة رغم قسوتها وكونها السبب في قلب موازين الاحداث والعودة بالذاكرة الى الماضي حيث صنعت كذبة رجلا بنى تصوراته على حياة بطل ثوري مقاوم
ويبقى السؤال مطروحا ،هل سيغفر لامه التي يتصور أنه ابن بطل استشهد وان الخاتم خاتمه
كم هو قاس هذا المصور لم لم يترك الرجل واعتقاده وقد صار والده تحت التراب
كل التقدير