أزمة الهوية وصور الاعتقال في رواية "رغم الاعتقال" للروائي الفلسطيني "رياض حلايقه"
تقديم رواية "رغم الاعتقال" للروائي "رياض حلايقية"
أزمة الهوية وصور الاعتقال في رواية "رغم الاعتقال" للروائي الفلسطيني "رياض حلايقية"
د/ سامية غشير (الجزائر)
لكل روائي رؤيته الخاصة التي يصيغ بها عالمه الروائي، والكتابة ما هي إلا انعكاس ورصد للواقع الإنساني وصوره وتجلياته المختلفة، فالواقع كان ولا يزال الملهم الأكبر للإبداع، والكاتب الحق من ينقل ذلك الواقع في قوالب فنية متميزة.
الروائي الفلسطيني "رياض حلايقية" يمثل أحد الروائيين الحداثيين الشباب في وطننا العربي، فقد أثرى المكتبة العربية بأعمال إبداعية هامة جدا، وفي روايته الجديدة "رغم الاعتقال" يعالج موضوعات هامة جدا وهي القضية الفلسطينية، وإشكالية الهوية، وعلاقة الأنا الفلسطيني بالآخر الصهيوني، وهذه الموضوعات تعد من أبرز القضايا التي احتفى بها الكتاب المعاصرون في أعمالهم الروائية.
انبنت الرواية على تيمات متناقضة: الحب/ الكراهية، الحوار/ الصراع، الوطن/ الغربة، فعنوان الرواية منفتح على مرجعيات شتى، فالاعتقال هنا لا يقصد به الاعتقال السياسي فحسب، بل تمتد دلالاته إلى الاعتقال الاجتماعي، والعاطفي والفكري، وغيرها، عنوان يحمل دلالات التحدي والصمود والرغبة الشديدة في الانعتاق من أسر الآخر الصهيوني الغاشم.
يشتغل الروائي على الهم الوطني الفلسطيني، ويرصد يوميات الفلسطينيين الذين يعانون من الاستعباد والقمع والموت وطمس معالم الهوية، فالرواية تنفتح على سياقات سياسية، واجتماعية، وإنسانية، يحاكي من خلالها الروائي حياة الشعب الفلسطيني المؤلمة والملوثة بروائح العنصرية والكراهية والرفض من قبل الآخر الصهيوني. فهو لا يتوقف عند تصوير ممارسات السلطة الإسرائيلية الإجرامية؛ بل يتعداها إلى ما هو أفضع من خلال تشخيصه للأصوات المقموعة وبحثه في أزمة الهوية، وضياع الوطن، واغتراب الإنسان الفلسطيني في وطنه المسلوب منه.
تجسد الرواية مأساة الفلسطينيين عبر عدة شخصيات عانت الألم والقهر والعذاب الجسدي والنفسي، منها بطل الرواية "فؤاد" المراقب من قبل المخابرات الإسرائيلية، وقد أدخل السجن ظلما وتعسفا، وزوجته دلال التي تمظهرت في صورة المرأة الأنموذج التي تناضل في سبيل تحرير زوجها، والعثور على ابنها المخطوف من قبل الجواسيس الإسرائيليين، وهي إشارة رمزية من قبل الروائي إلى اغتصاب أرض فلسطين من قبل اليهود.
ترصد الرواية حياة البطل "ياسر" الذي أنتزع من والديه "فؤاد" و"دلال" عند ولادته من قبل الجاسوسة في جهاز المخابرات الإسرائيلية "سارة" التي غيرت اسمه إلى "هارون"، وأرادت تربيته على كره وعداء الفلسطينيين، ليكتشف لاحقا أصله وهويته الفلسطينية، فيعيش أزمة في هويته بين العودة إلى جذوره العربية الإسلامية، وبين التعايش مع الإسرائيليين. كما قدمت أيضا عدة شخصيات، بعضها عنصري يكن مشاعر الحقد والبغضاء والازدراء للفلسطيين، منهم "سارة" ، "حاييم" ، "مائير" ، "موشي" ، والآخر متسامح مع الآخر الفلسطيني منهم القس، داوود، اسحاق.
ركزت الرواية في صفحاتها الأخيرة على الجانب النفسي للشخصيتين البطلتين "هارون" ، و"سارة" وبحثهما في هويتهما، ونظرتهما الدونية للآخر الصهيوني، الذي سلخهما من أصلهما، وعبث بحياتهما، وجندهما لمحاربة وطنهما، وينتصر الروائي للأنا من خلال لم شمل كل من هارون (ياسر) بأهله، و سارة (مادلين) بأهلها، وعودة الحب والدفء والسلام إلى الأسرتين.
وقد هيمن في الرواية صوت الأنا الفلسطيني على الأخر الإسرائيلي، كمحاولة من الكاتب الانتصار للفلسطينيين الذين يعانون من اعتقال مادي ومعنوي امتد واتسع مداه، غير أن الاستسلام وتغييب مقاومة الآخر تجلى في نهاية الرواية، بدليل استقرار البطل "ياسر" مع "زوجته" في جدة السعودية، وكأن الروائي مؤمن إيمانا عميقا أن المثقف غير قادر على تغيير الأوضاع، ومقاومة المحتل، وأن نور النصر مازال بعيدا.
إن رواية "رغم الاعتقال" تجسد بصدق وعمق وجع الإنسان الفلسطيني ومأساته وانتكاسته، وهي صورة عن ضياع أوطاننا العربية التي أغتصبت وأستعبدت، فأنتزعت هويتها، وعبث بمصير شعوبها، وقد أفلح الكاتب في تشريح العوالم الفكرية والنفسية للشخصيات، عبر لغة متعددة الأنساق والمرجعيات، وأظهر براعته الكبيرة في هندسة الأمكنة دلاليا وجماليا، ودقته في وصف العوالم الخارجية والمكنونات الداخلية.
إن الامتزاج الحميمي للرواية بالواقع الفلسطيني، وإغراقها في تصوير وحشية الآخر الصهيوني، وتشريح مواطن الحزن والوجع واغتراب الذات، يجعل منها رواية هامة تستوقف القارىء العربي، وتدفعه للتفاعل الإنساني مع أبرز قضايا أمته.