حين تصل إلى مكتبي الآن , سأدعها تجلس على الكرسي القابع بجوار مكتبي , ثم أسألها بنبرة حادّة مشبعة بالنزق والغضب , ماذا تريد أن تشرب ؟ .
بعد كل ذلك سأبادرها الحديث عابس الوجه مكفهر القسمات . كما أخبرني صديقي حاتم , عليّ أن أجعل وجهي مرآة تعكس ما يستعر في داخلي من نيران الغضب وبراكين التذمر من تصرفاتها التي جاوزت حدود التحمّل.
ينبغي أن أضع حدّا لاستسلامي المشين الذي يعتريني كلّما رأيتها, يكفيني إذلالا لرجولتي وانتقاصا من قيمتي التي أضحت لا تساوي درهما أو دينارا في نظرها.
قدمت لها كلّ شيء , أغدقتها بالهدايا الثمينة , والنحل الكريمة . لم أرفض لها طلبا قط حتى تلك السيّارة التي راقت لعينيها حين كنا نصطاف في باريس , اشتريتها لها كهدية في عيد ميلادها المنصرم. ثم بعد كل ذلك تخونني مع من ؟ مع سائقي الخاصّ !! . هذا النكرة البائس , فقط لأنه وسيم ويحمل تحت جلده كما من العضلات البارزة ؟!. تتذلل له وتبكي حين يبعد عنها , ترتمي تحت قدميه حين ينهرها . وأنا تتعامل معي بتعال وعجرفة وكبر, تمنني بوجودها في حياتي , تبتزني وأنا أذعن لها رغم معرفتي بكل ذلك ؟! .
يكفي إذا , ينبغي ان تعلم من أكون أنا ومن تكون هي . أن الأوان لأقذف بها بعيدا عن جنتي ولتتقلب في مستنقع السائق الأسن. نعم , اليوم ستعلم أنني لست أحمقاً ,وسأريها كل ما أمتلكه من تسجيلات وصور وأشرطة فيديو لها وحبيبها الوسيم. تظن أنها تستغفلني وأنني غدوت عبدا لها , أرزح تحت سطوة جمالها وإثارتها الساحرين. يا لها من خرقاء , أستطيع أن أستبدلها بأجمل منها بل بأجمل فتاة في المدينة كلّها , فقط بإشارة من يدي .
تأمل مليّا صورتها الرابضة في إطار مذهب يضعه على مكتبه , نعم هي جميلة , أحب عينيها كثيرا وأشعر بانعدام الجاذبية تتصاعد بي في سماء من الخدر اللذيذ حين ترمقني بنظرتها الوقحة تلك , أعشق شفتها السفلى المكتنزة كأنها محشوة بقطع من كرز أريحا الأحمر الحلو المذاق. لكن كل ذلك لا يعني أنها فريدة من نوعها , وإن كانت كذلك هذا لا يعني أن أسكب كرامتي تحت قدميها الجميلتين لتطأها بدلال وتكبر.
ولّى زمن الضعف والإذعان , وأنا اليوم شخص آخر , سأقذف بذاك الذي عرفته في سلّة المهملات , سترى وجهي الآخر ذاك الّذي يهابه كل من يعمل عندي في الشركة , أو من يعرفني من المعارف والعملاء وحتى أصدقائي يحسبون لي ألف حساب ؟! . ينبغي أن يتمخض القلق والتفكير الذي ما فتئ يرتادني في اليوم ألف مرّه عن مارد يزمجر اليوم كما ينبغي له أن يكون.
رن جرس الهاتف الداخلي القابع على يمينه فوق طاولة المكتب .
- نعم .
- لقد جاءت السيّده جويل سيّد مازن .
قالت السكرتيرة .
عدّل من جلسته , واسترخى في كرسيّه الجلدي الدوّار واضعا رجلا فوق رجل , ألقى بسيجاره الطويل الباهظ الثمن بين شفتيه, جلسة تنم عن لا مبالاة وتعال كبيرين.
- دعيها تدخل بسرعة .
دخلت بقامتها الطويلة , فاح عطرها الفاخر من ماركة جوتشي الذي يحب في جوّ المكتب . مشت ترفل بمعطفها الجلدي المبطن بالفراء الذي أهداها إياه في عيد الحب المنصرم ,صوت طقطقة كعب حذاءها يتردد في أرجاء المكان بإيقاع منتظم يعكس مدى روعة مشيتها وانتظام خطاها. كانت ترتدي قميصا أسودا ضيّقا تحت ذلك المعطف , يبرز طرف نهديها المتوثبين من فتحة قميصها التي تعمدت إبقاء أزرته العليا مفتوحة. شعرها الأسود كان مربوطا إلى الخلف بإحكام مستلقيا على ظهرها بتيه ودلال .
- "هاي" .
قالتها بطريقة جمعت كلّ إثارة الكون , ولاكت الحروف ببطء آسرّ.
انفك العناق الذي ألّف بين ساقيه , وطار السيجار الغليظ من بين أصابعه, وثب من جلسته المتعالية تلك برشاقة لا تعكس سنواته الخمسين , تحرك بخطوات أقرب للركض تجاهها.
- أهلا حبيبتي , دعيني أنزع المعطف عنك كي لا يثقل على كتفيك الجميلين .
نزع معطفها وقام بتعليقه بكل عناية واهتمام , ثم اقترب منها وقد اختفت الملامح وتاهت التعابير بين دروب قسماته المحيرة.
- إجلسي خلف المكتب يا أميرتي .
- حتما سأجلس هناك .
قالتها بنبرة اختزلت كل معاني التعالي الذي تبدا جليّا على محياها ووثب من نظراتها.
- هل سحبت النقود التي طلبتها من البنك ؟
- طبعا وهل أستطيع أن أقول لا لشيء تطلبه حبيبتي.
- إذا أعطنيها فأنا على عجلة من أمري.
- حسنا , تجدينها في الدرج الأول .
أخذت النقود , ونهضت من جلستها , تحركت باتجاه المعطف . استله بسرعة من مكانه , استدارت وألبسها إياه .
التفتت نحوه طبعت قبلة بلهاء على خده .
- نلتقي في المساء.
- حسنا .
- "باي".
- وداعا.
خرجت بعجلة واضحة واغلقت الباب خلفها.
وقف يرقبها بلا حراك, نظراته تتشبث بمرآها , بقي على حاله تلك لثوان معدودة.
جلس خلف مكتبه خائر القوى ,مضطرب الأنفاس, غرز السيجار بين شفتيه المرتجفتين , وأخذ يدخنه بصمت .