ظهرت القصة القصيرة كصنف أدبي مستجد في فرنسا بفضل كتاب مرموقين كجي دو موباسان و قد رافقت نشأة و تطور ظاهرة المقاهي الأدبية.
استخدمت في البدء التكثيف التقني أو التلخيص التقني للرواية بالاعتماد على نفس أدوات السرد الروائي، ثم انتقلت إلى مرحلة البناء الهوياتي المستقل حيث غدا متاحا الحديث في سياق الاستقراء النقدي عن " موضوعات القصة القصيرة ".
و قد استورد أدباء شمال إفريقيا ( المغرب - تونس - الجزائر ) فن أو أدب القص القصير مساهمين بذلك في خلق مدرسة الأدب المغاربي الناطق باللغتين الفرنسية و العربية
و في وقت لاحق، انتقل القص القصير إلى العرب في المشرق و إلى أمريكا اللاتينية، ليشكل في المحصلة أحد أركان الكتابة السردية المعاصرة.
----------------------------------------
" في الحقول " للأديب الفرنسي :
Guy de Maupassant
ترجمة : هشام البرجاوي.
----------------------------------------
ارتفع في أسفل رابية كوخان متقاربان مبنيان من القصب مجاوران لمدينة صغيرة تستقطب زوارها للاستشفاء بالمياه المعدنية. تعيش الأسرتان البائستان استنادا إلى عائدات النشاط الفلاحي البخس بسبب وعورة الأرض. تتألف كل أسرة منفردة من أربعة أطفال. يلهو الأطفال طيلة النهار أمام الكوخين المتلاصقين. الطفلان الأكبر سنا أكملا ستة أعوام بينما لم يتجاوز الآخران الخمسة عشر شهرا، و يعزى التقارب في الأعمار إلى انعقاد الزواج و الإنجاب بصورة شبه متزامنة في المنزلين.
كان التمييز بين الصغار أمرا بالغ الصعوبة بالنسبة للوالدتين، بدا الوالدين غير آبهين بالتمييز، يوجد صغار و يوجد كوخان و امرأتان هذا كل ما يهمهما، عدد ديمغرافي مستقر لا يجب أن يتغير، كانت الأسماء الثمانية ترقص داخل رأسيهما و تتمازج بلا انقطاع و عندما يرغب أحدهما في مناداة طفل له، فإنه يستخدم ثلاثة أسماء قبل أن يصل إلى الاسم الصحيح.
يقيم في أحد الكوخين آل توفاش و كانت أسرتهم تتألف من ثلاث فتيات و ولد واحد، بينما يسكن الكوخ الثاني آل فالان الذين تتألف أسرتهم من ابنة واحدة و ثلاثة أولاد.
كل هذا المجتمع البائس المصغر يقتات على الحساء و البطاطس المسلوقة و الهواء الطلق. مواقيت الطعام محددة بصرامة : السابعة صباحا، منتصف النهار و السادسة مساء، خلال هذه الأوقات تجمع كل عائلة أبناءها لتناول أشياء مادية أرقى ما يمكن أن توصف به هو : الطعام، يهش الآباء على أطفالهم في مشهد يذكر المشاهد بالراعي و هو يدير قطيع غنمه استعدادا لاقتسام المرارة الناعمة ليوم آخر. يجلس الأطفال إلى المائدة وفق ترتيب السن، و قد اعترت طبقة من اللزوجة الفاقعة المائدة إثر خمسين سنة من الاستعمال اليومي المتكرر. تطعم الأم في كل بيت أصغر الأطفال. و باستثناء يوم الأحد الذي تطهو فيه السيدتان بعض اللحم فإن أيام الأسبوع تحظى بنفس الوجبة المملة. لاستدراك عجزه عن توفير مستوى أليق من العيش يقول الأب :
- " لن أدخر جهدا في سبيل ضمان مثل هذه الوجبة طيلة الأسبوع ".
ترنح وعده الشاحب، قبل أن يصدقه الحاضرون بابتسامة اجتاحتها أمارات الأمل المحروق.
مع انتصاف نهار أحد أيام أغسطس اللافحة، اقتربت سيارة محترمة من أحد البيتين المتهالكين و عبر نافذة السيارة سُمع كلام متناغم لسيدة ارستقراطية، تتحدث الفرنسية الباريسية بطلاقة، تقول للرجل الجالس بجانبها :
- " هنري...أنظر إلى هذه الجماعة الرائعة من الأطفال، أنظر إلى انسجامهم ".
لم يجب الرجل الذي اعتاد على استهلاك أمنيتها القاتمة، فقد كانت تؤلمه كثيرا و أحيانا يشعر بأنها اهانة. تستأنف السيدة المحترمة حديثها المسجور بتطلعات الطفولة البريئة :
- " يجب أن أوزع عليهم قبلاتي جميعا، أريد أن أحصل على أحدهم، نعم ذاك، أصغرهم..أريد أصغرهم ".
خرجت بسرعة من السيارة و حثت خطاها صوب الأطفال المنهمكين في اللعب، و أخذت أصغرهم بين ذراعيها ، و كان من عائلة توفاش، قبلته بحنان متدفق و التصقت بشفتيها المعطرتين ذرات من الغبار المتناثر على وجه الطفل. رغم الحالة الرثة التي بدا عليها الطفل، فإن السيدة الارستقراطية أصرت على لثمه كلما حاول التملص من بين ذراعيها المطبقتين عليه. قفلت راجعة الى سيارتها و غادرت المكان بسرعة فائقة، غير أنها ظهرت في الأسبوع الموالي محملة بأنواع الحلويات و الهدايا، منحت القسط الأوفر منها لطفل آل توفاش بحكم أنه الأصغر و وزعت الباقي على الآخرين. اندمجت معهم كأي طفلة بريئة بينما كان زوجها يتابعها بهدوء عبر زجاج نافذة سيارته.
تكررت زيارتها للصغار و عقدت علاقات تعارف و تواصل مع الآباء و كلما زارت المكان تملأ جيوب الأطفال حلويات و نقودا.
كانت تسمى السيدة هنري دوبيير.
عند صباح يعد بمناخ صحو، وصلت السيدة إلى الكوخين و نزل برفقتها زوجها و بدون أن تتوقف لملاعبة الصغار الذين تعرفوا إليها جيدا، واصلت طريقها إلى كوخ المزارعين.
الأبوان مشغولان بتنظيم كومة الحطب لتجهيز الحساء،فاجأتهما الزيارة غير المرتقبة، فقدما كرسيين للضيفين و انتظرا انطلاق الحديث. بادرت السيدة الارستقراطية إلى الكلام بصوت متقطع :
- " سيدي، سيدتي، جئت للقائكما لأنني...لأنني...أريد أن آخذ معي...أن آخذ معي أصغر أطفالكما ".
ارتسمت علامات الدهشة على وجهي المزارعين و لم يجيبا.
استأنفت السيدة حديثها الصاعق :
- " ليس لدينا أطفال و نشعر بالوحدة أنا و زوجي...سنتكفل به...هل توافقان؟
تفهمت الأم القروية غاية السيدة الأنيقة المترامية أمام ناظريها فردت :
- " تريدان أخذ شارلو؟ طبعا أرفض ذلك لا سبيل للمساومة ".
تدارك السيد دوبيير الموقف المتشنج :
- " زوجتي لم تشرح لكما طلبنا جيدا، سنتبنى ابنكما و سوف يكون وريث ثروتنا. و إذا حصلنا على أطفال غيره سيتقاسم معهم إرث العائلة و إن خذل تطلعاتنا فسنحجز له عندما يصل إلى سن الرشد مبلغ عشرين ألف فرنك لدى قاضي التوثيق. و لأننا فكرنا في واقعكما أيضا فقد قررنا أن نرسل إليكم مبلغ مائة فرنك شهريا، هل رضيتم الآن ؟ ".
نهضت الأم مكفهرة المزاج و صاحت بمحدثها :
- " تريدان شراء طفلي؟ هذا ليس نوع المطالب التي نطلبها من أم، أعتبر عرضكما اهانة لي ".
بمجرد أن أكملت الأم ردها تهاطلت الدموع من السيدة و التفتت إلى زوجها و عيناها مغرورقتان :
- " لقد رفضوا هنري...لقد رفضوا ".
لم يتحمل الزوج المفعم بكبرياء الارستقراطيين ردة فعل أم الطفل فأرخى الأمل لمحاولة أخيرة :
- " أ لا يجدر بكما صديقاي أن تفكرا بمستقبل ابنكما...سيرث..". قاطعته الأم بصوت أكثر غضبا : " سمعنا و فهمنا، و جوابنا الفاصل حصلتما عليه...ارحلا...لا أريد رؤيتكما هنا ".
و قبل أن تغادر السيدة دوبيير لاحظت أنهما كانا طفلين، و سألت بعد أن غالبت بصعوبة حزنها :
- " و الصغير الآخر...أ هو لكما؟ "
عقب الأب توفاش بلا مبالاة واضحة :
- " هو للجيران، إن أردتما يمكنكما زيارتهما "، ثم عاد إلى منزله لإخماد غضب زوجته.
تحلقت أسرة فالان حول المائدة و انشغلت بالأكل، كسرات ضئيلة من الخبز مدهونة بالسمن تناوب على الاقتيات منها ستة أشخاص. كرر السيد دوبيير اقتراحاته مع مزيد من الحرص و الانتقاء في المفردات البراجماتية. في البداية حرك الأبوان رأسيهما للإفصاح عن الرفض بيد أن موقفهما تداعى حين علما أنهما سيحصلان على المائة فرنك كل شهر، تبادلا نظرات فاحصة قبل أن تقول الزوجة : " هل استمعت لاقتراحات الرجل المحترم؟ " أردف الزوج : " فيها ما يبنى عليه ". خشيت السيدة دوبيير من سقوط حلمها فتحدثت بإسهاب عن الحياة الراقية التي تنتظر الطفل إن وافقا على التبني كما تحدثت عن التطور السريع الذي سيلحق الوضع الاقتصادي للأسرة بفضل المبلغ الشهري. سأل المزارع بصوت أكثر تفتحا :
- " هل ستضمنان لنا المائة فرنك في حضرة قاضي التوثيق؟ ".
ما إن أنهى الأب فالان سؤاله حتى أجابه السيد دوبيير :
- " بالتأكيد، و منذ الغد ". بعد تأمل متباطىء قالت الأم فالان : " مائة فرنك مبلغ لا يكفي لحرماننا من الطفل الذي سيبدأ العمل في غضون سنوات، يلزمنا مائة و عشرون فرنكا".
وافقت السيدة دوبيير على عجل و منحت مائة فرنك كهدية للمزارعين بينما طفق السيد دوبيير يكتب وثيقة قانونية بشهادة العمدة و شخص آخر بعد أن استدعاهما النبيل دوبيير. ارتسم السرور على وجه السيدة دوبيير و غادرت و بين ذراعيها الطفل في الوقت الذي كان فيه آل توفاش يراقبون على حافة باب كوخهم الحالك الأحداث المتسارعة و في عيونهم ما يحتمل أنه تحسر على رفض عرض الثريين.
نسي الجميع حكاية الصغير جان فالان، دأب أبواه الحقيقيان على استلام مبلغهما كل شهر لدى قاضي التوثيق كما انهارت صلاتهما بجيرانهما فقد تعرضا لتوبيخ فظيع من الأم توفاش التي أوصلت حكاية بيعهما لطفلهما للمدينة المجاورة و لأطرافها. كانت السيدة توفاش تعتقد أن بيع الأبناء جريمة قذرة لا يرتكبها إلا أبوان غير طبيعيين و مرتشيين.
تحضن أحيانا طفلها بين ذراعيها و توشوش له بهدوء ربيعي :
- " لم أبعك صغيري لم أبعك، أنا لا أبيع فلذات كبدي، لست ثرية لكنني لا أبيع فلذات كبدي". مع مرور الأيام نما اقتناع في ذهن السيدة توفاش تعتبر نفسها من خلاله أعظم امرأة في البلدة إذ أنها رفضت الإغراءات الارستقراطية و احتفظت بطفلها.
تغيرت أحوال آل فالان نظرا للريع الشهري الذي يصلهما بانتظام بالموازاة مع تفاقم معاناة آل توفاش، فقد غادر أحد أبنائهما لأداء الخدمة العسكرية و اختطف الموت الأبن الثاني و في آخر المشهد التراجيدي بقي شارلو يساند أباه المسن في الكدح الفلاحي من أجل الأم و أختين تكبرانه سنا.
في غمرة شعوره بكونه ابن أم مثالية أكمل شارلو عشرين سنة.
بينما كان منهمكا في حواره الخشن اليومي مع الأرض الوعرة ذات صباح مورق، لمح سيارة لامعة تقف قرب منزل آل فالان. ترجل منها شاب محترم يرتدي بذلة فارهة و هو يشد على يد سيدة تبدو عليها علامات النبلاء، ثم ما لبث أن سمعها تقول للشاب :
- " بيت طفولتك الأولى هو ذاك يا بني" و أشارت إلى منزل آل فالان. ولج الشاب المتألق كوخ آل فالان. كانت أمه العجوز تغسل الأواني بينما خامر النعاس أباه الشيخ و هو ممدد على الكنبة. حين رأته والدته سقط صحن من يدها و تمكنت من النطق بعد أن انتهى صوت تكسر الصحن : " لقد عدت بني...لقد عدت...". احتضنها بين ذراعيه و لثم خديها مرددا : " صباح الخير أمي، صباح الخير أبي". قال الأب الشيخ متأثرا بدفء اللقاء كما لو أنه رأى ابنه قبل شهر من الآن : " ها قد عدت جان...ها قد عدت". في أعقاب أجواء اللقاء، خرج الأبوان العجوزان في جولة استعراضية شملت كل أرجاء القرية، قدما ابنهما الارستقراطي / الفلاح المسحوق سابقا للعمدة و معاونيه، للأعيان و لكل الذين أنصتوا لدروس الأمومة التي كانت تغزلها بكبرياء الأم توفاش قبل أكثر من عشرين سنة.
تابع شارلو توفاش مظاهر المجد الجينيالوجي ( العائلي) التي أحاطت بطفل آل فالان، و عند احتساء الشاي مع أبويه مساء قال بصوت مترنح :
- " هي اذا قسمة ظالمة و غباء طارئ منحا لطفل آل فالان كل ذلك الحظ البهيج...هل كنتما بهذا الحضيض من الغباء كي ترفضا اقتراحا يضمن مستقبلا مزدهرا لابنكما؟".
ردت الأم بكبرياء الوقت بدل الضائع : " لم نرغب في بيعك ". لاذ الأب بصمت عميق. و استأنف شارلو توفاش تمرده المباغت : " لقد كنت قربانا رخيصا للمبادئ حسب فهمكما لها طبعا ". استشاط الأب غضبا : " لن تؤنبنا لأننا رفضنا بيعك لكومة أغراب؟؟". و بنفس النبرة الغاضبة التي استخدمها الأب أجاب شارلو : " نعم...أنا أؤنبكما و سأظل أؤنبكما لأن الأبوة و الأمومة عندكما ألحقت بنا أضرارا أليمة". أجهشت الأم بالبكاء و لم تستطع أن تغالب زفراتها قبل أن يستأنف شارلو حديثه : " لقد عاد و هو في أحسن حال، لولا غباؤكما لاستطعت أن أكون هو الآن، لقد غدا الاستمرار معكما مستحيلا لأنني سأذكركما بصنيعكما الأخلاقي دائما و سأحيل حياتكما إلى مأساة، كما أنني غير مستعد لقبول واقع كنت لأصبح أكبر المستفيدين منه فإذا بي أول و آخر ضحية له ".
اشتدت قتامة الليل و تأجج شحوب النجوم قبل أن يرحل شارلو إلى وجهة مجهولة.
بداية سعيدة جدا أنّك هنا معنا أستاذ هشام
وشكرا لهذه الإضاءة عن القصة القصيرة ؛ مراحل نشوءها وتطورها
صدقا قصة محزنة ، لكن أظنّ حين يكبر شارلو ويعلم ان المال ليس كل مافي الحياة وأن الأبناء أعظم هبة للوالدين عنذاك سيفهم والدته ..
تحية لك استاذ مجددا
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
بداية سعيدة جدا أنّك هنا معنا أستاذ هشام
وشكرا لهذه الإضاءة عن القصة القصيرة ؛ مراحل نشوءها وتطورها
صدقا قصة محزنة ، لكن أظنّ حين يكبر شارلو ويعلم ان المال ليس كل مافي الحياة وأن الأبناء أعظم هبة للوالدين عنذاك سيفهم والدته ..
تحية لك استاذ مجددا
مساء الخير أستاذة كوكب
مثلما تتعدد الاختيارات التي تمنحنا إياها الحياة، فإننا من يتخذ القرار النهائي
من الصعب تقييم مبررات القرار، لكن مدى تحمل مسؤولية تداعيات قراراتنا