يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك قال السدي " وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ" يعني الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يستطعمونهم ويستسقونهم
وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم أجيبوهم فيقولون" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ " .
وروي من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس مثله سواء وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ " يعني طعام الجنة وشرابها
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي أخبرنا موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفار في دار عمرو بن مسلم قال سألت ابن عباس أو سئل أي الصدقة أفضل ؟
فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ".
وقال أيضا حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال لما مرض أبو طالب قالوا له لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر إن الله حرمهما على الكافرين .
نِعَم الجنّة حرام على أهل النّار:
بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.
وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله).
فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نِعم الجنّة.
ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب (قالوا إنّ الله حرمهما على الكافرين).
بحوث
هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها:
1 - يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر، وهذا ليس بعجيب، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر، بل ويرى - في بعض الأحيان - الطرف الآخر.
ولو كان القبول بهذا أمراً متعذراً أو متعسراً في الماضي، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جداً انحلّت هذه المشكلة، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.
2 - إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء، وهذا أمر طبيعي، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.
3 - إنّ عبارة (ممّا رزقكم الله) التي هي عبارة مجملة، وتتسم بالإبهام، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها.
وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول: (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ثمّ إنّ عطف الجملة ب- "أو" يشير الى أنّ النعم الاخروية الأُخرى وخاصّة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفيء عطش الإنسان.
4 - إنّ عبارة (حرمهما الله على الكافرين) إشارة إلى أهل الجنّة بأنفسهم، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النّار، لأنّه لا يقلّ منها شيء بسبب الإعطاء، ولا أنّهم يحملون حقداً أو ضغينة على أحد في صدورهم، حتى بالنسبة إلى أعدائهم، ولكن وضع أهل النّار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنّة.
إنّ هذا الحرمان - في الحقيقة - نوع من "الحرمان التكويني" مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.
في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم، ويوضح بذكر صفات أهل النّار أهل هذا المصير الأسود قد هيّأوه هم لأنفسهم، فيقول أوّلا: إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعباً (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً).
وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها (وغرتهم الحياة الدنيا).
إنّ هذه الأُمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات، وينسوا كل شيء حتى الآخرة، وينكروا أقوال الأنبياء، ويكذبوا بالآيات الإلهية، ولهذا أضاف قائلا: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون).
ومن البديهي أنّ المراد من "النسيان" الذي نُسِبَ هنا إلى الله هو بمعنى أنّنا نعاملهم معاملة الناسي تماماً، مثل أن يقول شخص لصديقه: (كما أنّك نسيتني فسوف أنساك أن أيضاً) أي أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لشيء.
كما أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الإنحراف والضلال، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخِذ الجدّ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق، وإنكار جميع الحقائق.