فتارة أراها صاعدة، متجهة إلى منبع ريح الصبا، وتارة إلى حر الجنوب.
مرتفعة إلى أوج. هاوية كشهاب دنا أجله، وحان احتراقه، حتى إذا أوشكت، شهقت فيعجز الفراغ عن استيعابها.
ألمح عندها دوران الفصول، هى ربيع، هى صيف، هى مطر، هى صحو، أراها متفرقة، أراها متجمعة، أحيانا ناطرة، وأخرى مولية، منصرفة، مقبلة، مجتمعة، واقفة، مجتمعة، واقفة، منبع ومصب!
قريبة حتى أوشك على تنسم ما تجود به مسامها.. بعيدة، قصية، مستحيل إدراكها، فكأنها مصدر كل اغتراب.. رأيت فيها مراحل فى لحظة، وأعمارا شتى فى كينونة.
ونبقى هكذا حتى المساء، نحس بالنهار فى داخلنا بدون أن نتحرك أو نتكلم.. كم عرفنا فى الصمت إلى أى حد وصل حبنا! كان حب مارسلين أقوى من أن تعبر عنه بالكلمات، وكم كنت أعانى أحياناً من هذا الحب، وكأنه نفخة ريح قوية تهب فوق مياه آسنة، فأقل شعور يظهر فوق جبهتها يجعلنى أقرأ الغموض عليها، إنها تسمع حياة جديدة تئن، تعلقت بى وكأننى فى مياه عميقة نقية، بعيدة لدرجة نكاد نراها، لم نكن نرى سوى الحب.
رجوتك ألا تنتحل الأعذار عن رحيلك، بل قل الوداع ثم انصرف: فعندما التمست البقاء كان لدينا مجال للكلام. وكان الفراق يومئذ بعيداً..
أجل، كان الأبد يومئذ معلقاً على شفاهنا، وفى عيوننا اجتمع الأزل، وجللت السعادة منا الجبين.. يومئذ لم نكن نعرف هذا البؤس الذى نعرفه الآن.
لم أعُد أكتب على أوراق الحرير قوافى منتظمة
ولم أعد أحيطها بإطارات مذهبة
إنها ترسم فى التراب الموّار
وتمحوها الرياح، ولكن قوتها تبقى حتى مركز الأرض
راسخة فى الأرض بالسحر.
ويمر الرحالة، العاشق.
ولو داس هذا المكان، لارتعدت كل فرائصه.
"هنا، قبلى، أحبّ عاشق"
لست بلا خطيئة لأرميكِ بأول حجر، فقد طالما أسأت استعمال ما لا يحصى من نعم الله التى أسبغها علىَّ، ليس ثمة غضب،وإنما هى الرحمة بكِ أخذت بيدى وجاءت بى إلى هنا.. والحق أقول إنى كنت قادراً على التقرب منكِ بكلمات الحب والهيام،إنما حرارة إيمانى هى التى قادتنى إليكِ، إننى أشتعل بنار الإحسان، وإذا كانت عيناك اللتان لم تتعودا النظر إلا إلى نقائصالبدن وعوراته تستطيعان أن تنظرا إلى الأشياء بحقيقتها الروحانية فلأظهرن إذن لكِ كغصن منتزع من تلك العليقة المشتعلةالتى أراها الله لنبيه موسى القديم فى البرية، ليعلمه الحب الصادق، الحب الذى يشعلنا دون أن يبلينا، فلا يترك جمراً أو رماداً، إنما بلسماً وعطراً يضمخان كل ما يتخلله إلى آخر الدهر
تعزف قيثارة الطبيعة على قلبى حينما أكون فى قلبها وحين أحاكيها فهى التى تكون فى قلبى..
الطبيعة التى تنقلها لنا المخيّلة المُبدعة هى أجمل من الطبيعة نفسها.. أنتشى بأنسامها وأصواتها أعمق حينما أكون بعيداً عنها..
الطبيعة هى التى تشكل سجايانا.. منها نستمد ما يوآزرنا فى أسانا، إنها ملجؤنا حينما نفقد الانسجام مع الطبيعة البشرية.
إذا عرف امرؤ لغة شعب تلاشى فى نظره ما يحيط بذلك الشعب من غرابة وإبهام، وكلما تقدم فى تفهم الآخرين انجلى له تشابه النفوس للنفوس،
وعثر على ما بين الناس من نسب الحاجات والنزعات والآلام والمسرات.. إذ ذاك يعلم أن الإنسانية واحدة فى كل زمان ومكان..
ورغم الفروق والحواجز والعادات والاصطلاحات، ورغم اختلاف اللغة وتقاتل المطامع لا تلبث أن تظهر له بالتدريج أخوّة الإنسان للإنسان.
لقد مرت الأيام والأسابيع والشهور والأعوام سابحة فى بحر الأبدية.. وطنى صار لى أرضاً غريبة وبلاد الغرباء أصبحت وطنى..
لكن حب فتاتى لا يزال حياً فىَّ.. وكما تسقط دمعة القلب على مياه البحار كذلك غرق حبى لها فى بحر حبى للإنسانية بأسرها..
حبى الذى يشمل ملايين من أولئك الغرباء الذين لا يعرفوننى وقد شغفت بهم منذ حداثتى.