لم يعد لي أمل. مات الجميع وغربت شمس الرفقة والمحبة والحنان . لم اعد ادري بذاتي ولا أكاد اصدق أو أهضم ما حصل . كانت مفاجأة قاسية وأليمة . خسرت كل شيء ولم يتبق لي ما يمكن أن يبقيني على قيد الحياة . كنت قادما على أجنحة السعادة بعد أن تجرعت مرارة اليأس من الشفاء من علة جسدية ونفسية بعد حادث السير الذي فقدت فيه قدرتي على السمع بإحدى أذني . قويت إرادتي بدعمكم الذي نفّس عني كربتي وأعادني إليكم سالما معافى. واليوم انتم غائبون ، لا اعلم عنكم شيئا إلا ما قيل لنا عن عالم آخر ليس له نهاية يرتبط بنا بالذكريات والأشجان . ما زال البيت خاويا يتلوى بالوحدة اجلس فيه هائما دون هدف . ما عاد يهمني بشيء بعد الآن ، تركت دراستي في الجامعة إلى اجل غير مسمى واحتفظت بالماضي داخل قفص الذكريات، حياتي الجديدة مشوشة باهتة لا معنى لها. اجرّ قدماي اتجاه المطبخ كي اصب فنجان قهوة باردة حضّرتها بالأمس ، وها هو باب البيت يقرع، دون مقدمات .
من عله يكون؟
لا أكاد اذكر أحدا قد يسأل عني بعد وفاتكم. ليس لدي القدرة على فتح الباب أو الحديث مع أي كان ، إلا أن الباب هزته طرقات أخرى أقوى وأكثر تصميما . اقتربت من الباب وسألت عن الطارق ، أجاب صوت خشن يأمرني بفتح الباب.
ودخلوا ...
كانوا أكثر من عشرة أشخاص يبدو على محيّاهم الشر.لم اخف يوما ممن يحمل الزي العسكري سوى هذه المرة ، لم يتكلموا أو يسألوا بل أعطاهم من بدا انه كبيرهم إشارة ما فبدأوا بالتفتيش . نفلوا كل شيء ، وحطّموا خزانتي الصغيرة دون أن يسألوني عن مفتاحها . اخذوا منها حافظة أوراق خاصة كنت احتفظ بها ثم أشاروا لي بالخروج معهم، أظن أنهم حملوني حملا لأني لم اشعر بقدماي وهي تلامس الأرض وتمشي . لم اشهد احدهم يبتسم أو يتحدث معي طوال الطريق وتركوني أتصارع مع هواجس ومخاوف لا حصر لها . داخل غرفة التحقيق التي تخلو إلا من طاولة خشبية وكرسي وعدة أوراق بيضاء وقلم ، جلست وفي داخلي رجفة وفي فضاء الغرفة برد من نوع آخر . تركوني حوالي الساعة ، وأخيرا فتح الباب ودخل احدهم . رمقني بنظرات فيها نوع من العتاب أو الاستهجان - حسب ما هيئ لي - قبل أن يقول بصوت ناعس :
- نحن نعرف كل شيء ولا داعي للإنكار .
وقدم لي ورقة أخرجها من جيب قميصه وطلب مني التوقيع عليها وهو يقول :
- لقد كنت بعيدا عن كل التوقعات.
اطلعت عليها للحظات قبل أن يسحبها بسرعة وهو يقول بنبرة فيها الحدة والترهيب
- وقع فقط . لا أريد تحقيقا قد يؤلمك خاصة انك خارج من نكبة فقدان رفاقك ... أنا أحاول أن يمضي الأمر بسلام خاصة أني قد عملت المستحيل كي أجنبك المتاعب بعد أن أقنعت مدير الجهاز بخصوصية قضيتك .
- لن أوقع دون أن اعرف التهمة الموجهة لي وأريد محامي.
.. بدا على وجه محققي الحنق فقال :
- أنا أشفق عليك، سنجبرك على الاعتراف والتوقيع . الدليل بين أيدينا، وقع وجنب نفسك الأهوال قبل أن يفوت الأوان. هذه فرصتك كي تنجو وسيقتصر حكمك على عدة سنوات تقضيها بيننا بدلا من الوحدة في البيت . وسأمنحك فرصة للتفكير ، وبعد أن تشرب القهوة سأعود إليك واحمل توقيعك في جيبي ولن تراني بعد ذلك أبدا .
أرسل لي مع فنجان القهوة سيجارة أجنبية وصدحت موسيقى حزينة من مكان ما داخل الغرفة .
في الحقيقة تطايرت أمام عيناي كل الخيارات، كان في داخلي ما يدفعني للرفض والعناد وشعرت كأن قلبي قد طار من مكانه واستقر داخل دماغي ، كيف أوقع ببساطة حتى دون أن اقرأ لائحة الاتهام؟
ولكن الأوراق تدينني ومهما رفضت فستبقى الذريعة لأي قاضي كي يقول ما يجب أن يقال .
أخيرا...عاد وقبل أن يغلق الباب خلفه دخل شخصان طوال القامة عريضا الأكتاف منتفخا الصدر تبرز عضلاتها إلى الخارج. لا أنكر أنني شعرت بالرهبة فحملت القلم وأنا أتطلع إلى أعينهما أعطاني المحقق الورقة. اقتربت بحافة القلم من أسفل الورقة وفجأة ... توقفت يدي في منتصف الطريق وتشنجت أطرافي، يا للهول ... أحدكم كان قد وشى بي، لم احسب حساب خلافاتي مع بعضكم . كيف يمكن لجدالنا السياسي أن يصل إلى حد الإساءة ، وكل هذا الحقد؟
إذا كان انتقاما فهو تصرف فيه لؤم موجع وغدر متطرف، خديعة حاسبكم عليها قطار الموت دون موعد مسبق ودون أن تحظوا بفرصة الندم ومراجعة ما فات. مر بخاطري حثكم لي كي أتوقف عن النشاط الممنوع الذي بدأناه معا ورأيت في أعينكم ما فهمته الآن
هانت عليّ نفسي واكتست ملامحي بالتصميم والتحدي وتحجرت عيناي .
... ربما رأوا الجنون في نظراتي وأنا أمزق الورقة وأفتتها إلى أجزاء صغيرة . ولأول مرة أرى الابتسامات تتوزع على وجوههم التي اكتست ملامحها بشراسة تنذر بما لا يحمد عقباه.