من البديهي على كل بحث وباحث عند التطرّق إلى موضوعة معينة تخص علماً أو فناً معيناً، فانه سوف يتتبع تاريخ ذلك العلم ويتلمّس مراحل نموّه وتطوّره حتى يصل إلى أصوله الأولى ونشأته وتلك المراحل التي مرّت به حتى وصل إلينا بكماله، كأي نشاط آخر منذ بدء البشرية وحتى أيامنا هذه، كما اللغة ذلك الكائن الحي هو مثال على علم ونشاط وأسلوب تواصل ولد ونما وتطوّر من عصر إلى عصر حتى تكامل بالشكل الذي نتحدث به الآن، وسيستمر هذا التطوّر في اللغة حتى نشهد موت مئات الكلمات كما ماتت قبلها المئات ولم تعد تستعمل وظلّتْ حبيسة المعاجم اللغوية نرجع لها إذا استعصتْ علينا مفردة ونحن نقرأ ما يسمى بـالأدب الجاهلي، بل ربما نستهجن على شاعر أو أديب إذا ذكر كلمة لا تصلح للتداول في لغتنا المعاصرة ونطلب منه استبدالها بكلمة شعرية متداولة، رغم ان هذه الكلمة كان استعمالها بشكل طبيعي في مجتمع الجزيرة العربية قبل أكثر من خمس عشر قرناً من الآن.
ولا أبالغ إذا قلت بأن الشعر كان ملازماً لهذا النشاط التواصلي(اللغة) منذ بدء الخليقة ومن يراجع كتاب(مقدمة في أدب العراق القديم) للعلامة المرحوم طه باقر يجد أن الأدب والشعر خاصة انحدر إلينا من أعماق سحيقة من التأريخ ترجع إلى أكثر من سبعة آلاف عام، وأزعم شخصياً بأن اللغة العربية هي بقدم الحضارة نفسها التي تناقلتها الألسن قبل اكتشاف التدوين على الرقم الطينية، لكنها تطوّرت عصراً بعد عصر وحقبة بعد حقبة ولم تندثر وتموت كما ماتت لغات كثيرة يعرّفها علماء الآثار بل صقلت بأزيل التاريخ، وأعزو ذلك إلى كثير من الكلمات المتداولة ذات الأصول القديمة من بابلية وآشورية وأكديّة وغيرها وقد وضع العلامة طه باقر كتاباً بهذا الشأن أسماه(من تراثنا اللغوي القديم – ما يسمى في العربية بالدخيل) ، وحينما نتحدث عن الأصول الأولى للشعر لا نستطيع بمكان ان نغفل أقدم ملحمة شعرية في التاريخ وهي:
(ملحمة كلكامش)
أشبعت هذه الملحمة بحثاً، وتحليلاً، ودراسةً ونقلاً إلى لغات كثيرة، وأهتم بها الآثاريون كان آخرها ترجمة د. نائل حنون، هنا قد يتساءل القارئ ما علاقة كل هذا بالبحر الشعري الذي نحن بصدده الآن؟ ولدينا إجابتان لهذا السؤال:
الإجابة الأولى:- إن ملحمة كلكامش ملحمة موزونة كما يذكر د. صلاح نيازي (فن الشعر في ملحمة كلكامش) والعلامة طه باقر في كتابه(ملحمة كلكامش)، وأنقل من كتاب الأول هذه العبارة(يقول N.k.sandars في كتابه ملحمة كلكامش: إن نسخة ملحمة كلكامش المدونة باللغة الآشورية مكتوبة بشعرٍ موزونٍ حرٍّ، وفي كل شطرٍ منه أربع نبرات، أو وحدات إيقاعية، بينما النسخة المكتوبة بالبابلية القديمة، فاشطرها أقصر، ولكل شطرٍ وحدتان إيقاعيتان) ثم يعلق د. صلاح نيازي بأن هذا الرأي يضعنا أمام خيارين هما تعيين لغة النص، وقراءته بلغته الأصلية أي نقل أصوات حروف لغة إلى لغة أخرى، وان التقطيع سيكون على الأوزان الإنكليزية، أشير للدكتور نيازي بصرف النظر عن هذين الأمرين يجعلنا نقف أمام كلمات موزونة كما يشير إليها الباحثون الأجانب حتى وإن كانت بأوزان انكليزية أو غير انكليزية .
الإجابة الثانية:- إن وزن الملحمة هو(الخبب)، وبالتأكيد لم يكن يُعرف بأنه خبب في العصور السحيقة فكما أسلف الباحثون بأنها مقطعات صوتية قصيرة، ومن المفيد هنا ان نذكر أصل كلمة(شعر) حيث يقول طه باقر في كتابه(ملحمة كلكامش – ص34): ان الكلمة التي تطلق على الشعر في أدب حضارة وادي الرافدين هي كلمة(شيرو) البابلية، و(سيرْ) أو (شِر) السومرية التي ظهرت في نظام الكتابة المسمارية، وان مصطلح (شير هشريم) العبراني يشير إلى مفردة(نشيد الأنشاد)، وأميل إلى ان هذه الكلمات على الأعم الأغلب تشير إلى الغناء والترانيم، التي بدأت مع بدء الخليقة والتصقت التصاقاً بالمعابد الدينية لأجل مناجاة الإله، إذاً كانت تغنّى بألحان معينة، وهذا يفسّر التعريفات الكثيرة التي أشار إليها الباحثون بأن ملحمة كلكامش أو حتى الإلياذة والأوديسة والشعر الإغريقي القديم كان هو(مقطعات صوتية)، سأبقى مع طه باقر ود. نيازي حول وزن الملحمة وهذا المثال:
خطاب سيدوري صاحبة الحانة إلى كلكامش:
(سابينمْ أنّا شاشمْ أزْكرّا أنا كلكامشْ
كلكامش أيش تدالْ
بلطم شا تسخورا لا تنّا
حنما ايلاني ابنو اويليتمْ
ماتمْ أشكونو أنا اويليتمْ
بلطمْ أنا قاتيشوتو اصبطو
أنّا كلكامش لو ملئي كرّشْكا
اورى أوموشي خدادو أنّا)
فيما يلي التقطيع العروضي للأبيات أعلاه:
سابي/نمْ أن/نا شا/شمْ أزْ/كررا/ أن نا/ كلكا/مشْ
كلكا/مش أيش/ تا دالْ
بلطم /شا تس/خورا/ لا تن/نا
حنما/ ايلا/ني اب/نو آ/وي لي/تمْ
ما تمْ/ أش كو/ نو أن/نا او/ لي تمْ
بل طمْ/ أن نا/ قا تي/ شو تو/ اص صب/ طو
أن نا /كلكا/ مش لو/ مل ئي/ كر رش/ كا
أو رى/ أو مو شي خد/ دا دو/ أن نا
فيما يلي الترجمة العربية:
(يا كلكامش إلى أين أنت سائر
لن تجد قط الحياة التي تنشد
فالآلهة حينما خلقوا البشر
كتبوا عليهم الموت
واحتفظوا بالخلود لهم
يا كلكامش دع معدتك تكون ممتلئة
وانشرح ليل نهار)
في التقطيع أعلاه نتعرف على جملة من الحقائق ومنها- والكلام لا زال للدكتور نيازي- :
1- يتفاوت عدد التفاعيل من شطر إلى شطر
2- وفقاً لذلك التفاوت لا يوجد شطران
3- يحتوي الشطر الأول عل سبعة تفاعيل، مع زيادة مقطع بينهما، يحتوي الشطر الذي يليه على أربعة تفاعيل.
4- تتكرر زياة مقطع في الأشطر التالية الثالث والرابع والسادس والسابع
5- كل التفاعيل على وزن فعلن ما عدا التفعيلة الأولى، فقد جاءت على وزن فَعِلُنْ.
ثم يقول د. نيازي: (لا يساورني شك أن ملحمة كلكامش مكتوبة على بحر الخبب، وتفعيلته الأساسية إما على وزن فعلْنْ أو فَعِلُنْ).
ثم يقول: (بحر الخبب كما هو المعروف متولد من بحر المتدارك وتفعيلته (فاعلن)).
والحقيقة ان الدكتور نيازي قد سها هنا فقد قال، (بحر الخبب وتفعيلته الأساسية إما على وزن فعلْنْ أو فَعِلُنْ) وبعد سطر قال(بحر الخبب متولد من بحر المتدارك وتفعيلته (فاعلن)) بل أن بحر الخبب على ما رأينا من أدلة تاريخية هو أقدم أشكال الأوزان الشعرية وهو بحر صاف مستقل بذاته غير مشتق من المتدارك على أن لا توجد لبحر المتدارك ولا لبحر الخبب أمثلة في الشعر العربي ودليل ذلك عندما أظهر الأخفش بحر المتدارك لم يكن معروفاً عند العرب ولم يكتب له أحد بعده، والظاهر أنه قلب بحر المتقارب في محاولة لإيجاد بحر شعري آخر، وعدم ذكره لا جهلاً من الخليل الفراهيدي وهو العالم باللغة والأصوات ولكن لعدم استساغة الأذن موسيقى(المتقارب) لذا أهمله أو لأنه لم ينتمِ إلى الدوائر العروضية التي أوجدها الخليل لذا تم استبعاده، غير أن الشعراء أدخلوا الخبن على تفعيلة المتدارك وأقدم نموذج أسعفتني مصادري العثور عليه محاولة من بيتين لأبي العتاهية ثم سار بعده الشعراء على هذا المنوال.
نستخلص من هذا البحث المتواضع:
إن ملحمة كلكامش أول نص شعري موزون في التاريخ، وكذلك هو أول قصيدة تفعيلة سبقت الشعر العمودي، ووزن هذه الملحمة هو الخبب أول البحور الشعرية وهو بحر مستقل، وإن بحر المتدارك هو مقلوب بحر المتقارب وهو بحر مهمل لم يكتب عليه أحد، وإن أول من كتب على بحر الخبب من الشعراء أبو العتاهية في العصر العباسي.