تهيأ الجميع للخروج مبكراً هذا اليوم، أنهم مهتمون بالتهيئة ليوم جديد.. غداً، انه العيد الكبير يتمازحون، يتضاحكون بانشرا.
في الباب الخارجي تذكر أنه نسي بعض هدايا العيد في حجرته في الدائرة، استأذن وعاد مسرعاً، فتح باب حجرته على عجل، ترك المفتاح معلقة في الخارج وانشغل في التقاط الهدايا المسلفنة والأخرى في علب الكارتون، في غمرة اهتمامه سمع اصطكاك باب الحجرة بعنف لكنه لم يعره ذلك انتباها، أتم أمره بسرعة، أمسك قبضة الباب، لكنها انخلعت وجاءت بيده، الباب لم تفتح، ركب القبضة ثانية وحاول سحبها لكنها أفلتت، مد يده إلى جيبه، تذكر أنه نسي المفتاح معلقة في الخارج، ظل يحاول فتح الباب بطريقة ما لكنه لم يفلح، راح يضرب عليها ضربات عنيفة وارتفع صوته مناديا ولكن أحدا لم يسمع فالجميع قد غادر الدائرة وبقي وحده فيها، واصل ضربه العنيف وارتفع صراخه مستجيراً دون ان يسمعه أحد، رفس الباب عدة رفسات بكلتا قدميه وانهال عليها بضربات عنيفة أخرى من قبضته، لم يحصل سوى على آلام عنيفة ايضا.
ارتد إلى كرسيه ليستريح ويستجمع بقايا أعصابه المتوترة، أدار عينيه في أرجاء الغرفة باحثا عن آلة ما قد تساعده في فتح الباب، ظل يحدق مليا في كل جانب، وقعت عيناه على الشباك، عرف السبب في إغلاق الباب، لكنه لم يعرف سبب إحكام غلقه إلى هذه الدرجة، حدق من فتحة الشباك، فهالته المسافة السحيقة التي تفصه عن الأرض، اضطرب قلبه بعنف، التفت بوجهه نحو الحجرة ثانية متجها نحو الباب يعالجه ويتفكر في شأنه، ارتد إلى كرسيه ثانية محدقا في كومة الهدايا المستقرة فوق المنضدة أمامه، هذا ثوب طفلته الصغيرة، وذلك حذاء الولد الكبير، وتلك مجموعة الملابس الداخلية الناعمة التي وعد بها زوجته ليلة العيد ووعدته بليلة هانئة..
ثار الحنق في صدره وصار يصب اللعنات على كل شيء، وقف أمام الباب حائراً، رماها بعدة رفسات عنيفة، أحس بالإجهاد والتعب يعتري جسده، بصق عليها بعنف من فمه المشتعل وأخذ يدور في الحجرة في كل اتجاه وهو لا يعرف ماذا يفعل.
مضت ساعات عديدة بدأ الظلام يختلط شيئاً فشيئاً، لابد ان الاسرة بانتظاره، ربما قلقوا لتأخره، عاد إلى كرسيه ثانية والتفت إلى التلفون بجانبه، إنه تلفون داخلي فقط، هو يعرف ذلك، أخذ يدير أرقامه على كل الاقسام في الدائرة، دون جواب سوى رنين أجوف أنهك أعصابه المتوترة، ضرب السماعة في المنضدة ضربة عنيفة، تحطمت وتطايرت شظاياها في كل اتجاه أحس بشيء من الجوع والخور يداهم بطنه، أدار نظره، لا يوجد أي شيء يمكن أن يؤكل في هذه الحجرة اللعينة، مدد رجليه وراح يتأمل مغمض العينين، أحس بامتلاء في كليتيه، سحب رجليه بقوة وانتصب واقفاً: أين سيفرغ كيس الماء هذا؟ فكر قليلا لكنه لم يفعل شيئاً عاد مستريحا في كرسيه، لكن ضغط الماء ازداد عليه، دار في الغرفة هائجا واستقر رايه أن يفرغ ماءه في هذه الزاوية.. اندفع تيار الماء متدفقاً منه بقوة، ظل ينظر إليه باستحياء وهو يسيل على الفراش الأرضي، سقطت آخر القطرات متخاذلة، شعر براحة عميقه تغمر اعصابه وهو يتخلص من هذا الحمل الثقيل، بدأت رائحة كريهة تملأ أجواء الحجرة الموصدة، أحس بالانزعاج، هب غلى الشباك ورماه بلعنة منه، تركه نصف مفتوح وراح يفكر كيف يتخلص من تلك الأخرى إذا ما حاصرته، هرب من الفكرة وانسرب فكره إلى البيت والزوجة والأطفال وهذه الهدايا المتكومة فوق المنضدة اللعينة.
حاصره الغضب ثانية واندفع إلى الباب بقوة يعالجه دون أن تلين له، جال في الغرفة ثانية وأحس بالنعاس يداهمه، ثقلت أجفانه، فكر كيف ينام هذه الليلة، لم يجد أفضل من أرضيه الحجرة مع أحد هذه السجلات الكبيرة وسادة له مدد جسده المتعب على الأرض وأحس ببرودة تسري في أضلاعه واطرافه، أغفى قلقا لبعض الوقت، انهالت عليه الكوابيس وأضغاث أحلام مزعجة، انتبه من نومه على صوت قرقعة قرب رأسه، ساوره شيء من الخوف أو الأمل لا يدري أخذ يفتش بعيون متعبة، أبصر في الزواية البعيدة فأرة صغيرة تقضم شيئاً ما يتكسر بين اسنانها، اعتدل في جلسته وراح يراقبها في حسرة عميقة.
من أين جئت ايتها الرفيقة البائسة؟ وهل تستطيعين مساعدتي في شيء؟ آه لو كنت تفهمين، فهذه المفاتيح معلقة في الخارج ولا تحتاج إلا ليد تديرها دورة واحدة فقط وينتهي كل شيء.
أنا هنا سجين في هذه الغرفة الملعونة، والعالم كله يمور كله بالحركة الآن في الخارج، هذا هو صباح العيد قد أقبل والناس يرقبونه بشوق.
وأما أنتم يا زوجتي العزيزة ويا أطفالي الأعزاء فلا أدري كيف قضيتم الليلة الماضية وكيف تستيقظون هذا الصباح بلا عيد؟ أيتها الفأرة الناعمة اذهبي إلى أسرتي إلى كل الناس في الخارج واخبريهم إني سجين في هذه الحجرة اللعينة.
قولي لهم لقد اصطفق علي الباب فجأة ولا اعرف إلى فتحه سبيلا، إنني أسير هنا في داخل هذه الحجرة، وحدي لا احتفل بهذا العيد والناي كلهم يحتفلون.
اذهبي ايتها الفأرة أرجوك، فلك القدرة أن تذهبي وليس لي أن اذهب، لماذا لا تذهبين، أنا أريد ولكن لا استطيع وأنت تستطيعين ولكن لا تريدين، أليس لديك أسرة مثلي، فأنا أعرف معشر الفئران أنهم مثلنا.
أيتها الفأرة سأحاول فتح الباب ثانية وأرجو أن تساعديني ما استطعت، فان أنا فشلت فلا تسخري مني أرجوك.
توجه صوب الباب ثانية غير انه اكتشف أن جهداً وإرهاقا كبيراً قد أصاب جسده، تسلل اليأس إلى نفسه فعاد إلى كرسيه مترنحاً، أحس بالجوع الشديد يصهر معدته وامعاءه، وبجفاف شديد في فمه، لا شيء عنده، انه يسمع ضجيج الحياة في الخارج: مكبرات الصوت، منبهات السيارات، أصوات الموسيقى الشعبية، كلها تعاضدت في عزف أوركسترا العيد غير المنتظمة من بعيد يسمع أهازيج الصبية وضحكاتهم، ترى كيف استقبل العيد أولادي؟
آيس تماما من محاولاته في فتح الباب وأيقن انه لا يستطيع الانتظار طيلة أربعة ايام هي مدة عطلة أيام العيد الكبير، استرخى في كرسيه بإعياء شديد، وفكر أنه في حاجة إلى من يدير المفتاح في الخارج دورة واحدة فقط ليخرج من أسره هذا، عاد يلعن بإرهاق ظاهر تلك اللحظة المأساوية التي أعادته إلى الحجرة:
• آه لو أني وضعت المفتاح في جيبي، آه لو أني تمهلت قليلا في أمري، آه، آه، ولكن لا ينفع اللوم.
بدأت قواه تخور تماما، فقد مرت عليه الأيام، ولم يعد يقوى على الحركة، الجوع والعطش والإرهاق تضافرت عليه جميعا، حاصره اليأس تماماً، حاول أن يقوم من مكانه لا يدري إلى أين، لم يستطع، أحس بفشل ذريع، مد يدا مرتعشة إلى جبهته، أحس فيها بروداً شديداً، مط شفتيه بصعوبة وحاول أن ينطق شيئاً ما، لكنه فشل كذلك، تراجعت قواه وبدأت تخور، تراجعت ذاكرته وأخذت تختلط عليه الأمور، أشباح كئيبة تغلق عينيه وتحتل بقايا فكره المنسرب، هلوسات تعروه وهو يتمدد على أرضية الحجرة، لحظات ألم تعتصر بقايا جسده المنهك فأغمض عينينه متوهما النوم..
عادت الحياة إلى الدائرة بعد انتهاء عطلة لعيد.. المفتاح معلق في الخارج، دورة واحدة وفتح الباب:
جثة باردة ممددة على أرض الحجرة رأسها مستند إلى سجل قديم..
30-12-2000
"القراءة"
فخٌ صغيرٌ يتربصُ بنا خلف أسطر قصة(الحجرة) للدكتور حسن الخاقاني المنشورة ضمن مجموعته(أقبية الصمت)، فحينما نشرع بالقراءة بدءاً، ترتسم ابتسامة بسبب بناء القصة السهل الممتنع والوضوح الذي يسردُ لنا يومياً عادياً لموظف، فنحاول أن نعطيها تحليلا ابتدائياً فنعبّر عنها بأنها نزعة كافكوية اعترت كاتبها في لحظة ما، لا تهدف إلى غير التهكّم على مصيرِ ذلك الموظف الذي ساقه القدر إلى حتفٍ مضحك، وكما قال في مقدمة المجموعة أنها(استفراغ لأزمات نفسية أو نزعات روحية) محاولاً إبعاد تهمة الكتابة عن نفسه بوصفها(عبث ولا جدوى)، فأن السير مع أحداث القصة تدفعنا إلى التفكّر ومجاراة ذلك الموظف في محاولة معه لإخراجهِ من أزمتهِ، والبحث عن منافذ في داخل القصة ومواجهة الكاتب بها، كالسؤال عن الموظف من قبل دائرته وزملائه وأسرته، أو حتى افتقاده من قبل حارس البناية خاصة أن القاص اشار في بدايتها إلى أن الضحية استأذن رفاقه وعاد لجلب الهدايا.
لكن ما أن نستمر مع القصة حتى نأخذ –في القراءة- منحنى آخر تأويلياً لنجد الفخَ هنا أن هذا الموظف ماهو إلا قناع لأي إنسانٍ يسير في هذه الحياة برتابتها كهذا الموظف الذي يزاول عملاً مكرراً في دائرته يتلخص بتدقيق أوراق المراجعين التي قد تحتوي على المعلومات ذاتها، والتواقيع ذاتها في كل مرة.
مفارقة انغلاق الباب على الموظف ماهي إلا انتباهه من غفلته(غفلة الواقع) الذي حوله ليرى أن حياته، سنيّه، أيامهُ رقّاص ثوان لا يفعل شيئاً إلا الدوران والدوران، وكل دقيقة تمضي هي ذاتها بلا تغيير وليس كما نتوهّم أن الزمن يتقدّم في هذه الآلة الخرساء، وان انتباهته - بعد فوات العمر – جعلته يحاول الخلاص من هذا القمقم ضيّق العنق وهو بذلك يجاهد في سبيل أن يجد بين تجاعيده بعض ثغرات الشباب لتغيير هذا الواقع الجامد، لولا أن باب القدر محكم الإغلاق فيجب عليه ن يسير وفق مخطط الرحلة، وهو بذلك يحلّم برمزية المفتاح الذي تدور حوله تأويلات معينة فكلّ يراهُ شيئا ما من شأنه تغيير حياته إلى الأفضل أو إلى حراك معين تاركاً للقارئ والمتلقي الحرية في تجسيد الباب المانع الذي ينتظر خلفه الخلاص.
ظهور الفأرة والحوارية التي دارت بينهما مفارقة أخرى يدفعنا إليها النص فهذا المخلوق غير ذي أهمية يصبح في هذه الظروف رفيقاً يبادله الشكوى والحديث ويذكرني ذلك بفلم حديث يضيع فيه توم هانكس في جزيرة فيتخذ لنفسه كرة يطلق عليها اسما وتصبح رفيقته الي يحاورها، هنا واستمرارا في تأويلنا للفأرة نرى بأنه يعني الأمل الذي لا يغير شيئاً بعد ضياع العمر لكنه مفيد وإن كان قبيحاً ومراوغاً ذلك الأمل الضئيل الذي يبني حوله أحلامه لليقظة عسى أن يكون هناك ممرا مفترضا يقوده إلى الجانب الآخر، حتى ينقضي الواقع بانقضاء حياة الإنسان بعيداً عن أدنى طموحاته التي تركها خلف جدران الحياة.
عادل الفتلاوي