وساوس ـلب
نهضت ذات صباح ضيقة الصدر خائرة القوى تائهة الأنفاس مصفرة الوجه مضطربة العود وقد خالط روحها الانقباض...
غسلت وجهها وأطرافها وعادت إلى غرفتها...
وعلى كرسي مهترء تهالكت بجسدها المنهك كجثة هامدة لا تتحرك فيها غير هواجس مشوشة يقشعر لها بدنها الضعيف...
فتحت الكراسة... وبصوت أجش وعيون متعبة راحت تقرأ سطورها... ولم تمض لحظات حتى تجمع العرق على جبهتها التي بدت اليوم مجعدة كجباه العجائز...
رمت الكراسة جانبا... وحركت رأسها الذي غدا ثقيلا لم يقدر جسدها الضعيف على حمله...
تفرست المكان من حولها... أبصرت الدمية... تحاملت واستوت على قدميها ومدت إليها يدها المرتعشة كشفة شيخ كبير... ضمتها إلى صدرها بعنف وعادت إلى مكانها...
إنها الدمية التي اتخذتها بنية لها منذ ثلاث سنوات...
كل شيء الآن ساكن من حولها... حتى عقارب ساعة معصمها توقفت- فجأة- عن الدوران...
غير أن قلب (عفاف) لم يتوقف وتفكيرها كذلك...
فهي لا تزال تفكر بطفل صغير يرسمه لها خيالها الجامح كلما ضمت الدمية إلى صدرها...
طفل تضمه –كما الدمية- وتسقيه- كما الزرع- من معين حنانها الفياض...
فمنذ أن دلفت باب الثانوية تحركت خواطرها وانسابت الشطحات إلى خيالها وسكن جوانحها وخامر مشاعرها حبها لأن تكون أما لوليد تهبه قلبها ولبها وكبدها وتصب فيه سيول حنانها الدافقة...
طفل يملأ عليها بيتها براءة ونورا وقلبها حبا وودا... ويخفف عنها شيئا من حرارة الأمومة المشتعلة بداخلها...
يناديها بصوت عذب: يا ماما, فتجيبه: يا حياتي, يا دنياي, يا أغلى ما في هذا العالم الرحب...
غير أن أشواك الحيرة تجرح قلبها اللين وتنغص عليها حلمها الجميل وتبدد شمس خيالاتها...
حيرة الاختيار بين أن تكمل دراستها... فتنال شهادتها, وتشبع بذلك رغبتها في التعلم فتحيي كل من تلقاه وتخبره بنجاحها وقبل كل ذلك تحقق أمل والدتها الحنون التي تنتظر بفؤاد فارغ خبر نجاح ابنتها...
وبين أن تترك مقعد الدراسة وتصبح أما لوليد تكتحل بمحياه البريء عيناها الحالمتان وتتحقق بميلاده أحلامها الوردية وتمتثل لنصيحة أبيها الذي لم يدخل المدرسة قط..
لو دخلت عليها أمها في هذه اللحظة لألفتها تسبح في العرق... وقد انمحت تلك الابتسامة الوضاءة من وجهها البريء وارتسمت مكانها خيوط واهية كبيت العنكبوت... ولبست الحيرة روحها...
وهي في قمة حيرتها سرعان ما اختطفها طائر الأحلام لترحل رفقة دميتها الصغيرة من عالم الواقع إلى عالم مشيد على هواها...
لتدخل (القفص الذهبي) -كما يحلو لبنات الثانوية تسميته- بفستانها الأبيض الفضفاض...
وقد انتعل أصبعها الصغير خاتم الزواج وعلت قلائد الذهب الإبريز جيدها الناصع ورصعت اللآلئ أذنيها...
وهي تتطلع في مشيتها على سطح قاعة فسيحة أرجاؤها... بلط البلور جدرانها وأنارتها ثريات كبيرة وهوتها مراوح لا تهدأ...
وأبوها يلوح بيده... مبارك عليك... شاعك الخير... صحبتك السلامة يا ابنتي...
وفرق الموسيقى تعزف أحلى الألحان... والرقص قد طاب وكل من دعي إليه أجاب...
شهر العسل يمضي... شهران... ثلاثة... أشهر عدة...
أحست ( عفاف) بحركة تهز جذعها الطري... وآلام و أوجاع تعصر عودها المنهك... وتقوض بطنها المتداعي...
وبمرور الأيام أصبحت طريحة الفراش... فخلدت إلى أسرة المستشفى... يومان... يوم... بضع ساعات... العد التنازلي بدأ...
مدت عينيها المتعبتين... كل شيء حولها أبيض كفستان عرسها...
لا شيء يتحرك غير الألم في أحشائها والعيون المرسومة في البياض المحيط بها...
زفرت زفرات مصت لها شفتيها اللتين كادت الحياة تهجرهما...
- أسرعي يا ابنتي ستتأخرين عن امتحان الباكالوريا ؟
من خيالها الجارف أفاقت (عفاف) على صوت أمها التي أسرها القلق على مستقبل ابنتها...
ازدادت أعصاب (عفاف) توترا وهي تداري دميعاتها المتناثرة, وتراقب عقارب ساعة معصمها التي يبدو أنها تتحرك الآن...
لم يبق من الوقت إلا القليل... و(عفاف) لا تتحرك من مكانها كأنما غرست فيه ودموعها جامدة في محاجرها...
وسرعان ما غالبها الدمع وراحت باكية...
الأم لم تسمع غير البكاء...
دخلت غرفة ابنتها... فلم تر غير الدموع...
صرخت صرخات فاجعة...
وجبذت الباب بقوة وهي تولول وتدق على صدرها...
وتمد يد البدار إلى الصدار تبغي تمزيقه
***