هكذا...دون مقدمات أعلنت بأنها تحبني وعلي أن أتزوجها فورا فتزوجتها،
ليس تهورا ولا نزوة وإنما هو انسلاخ تجريبي قد يضعني أمام أجوبة لتساؤلات باتت تنهش رأسي منذ أن اعتزلت في غرفتي الغاصة بالكتب وبعيدا عن زوجتي التي جاهدت لسنين طوال على عدم إزعاجها بسهري وقراءاتي الليلية.
هكذا...حدث الأمر سريعا،اذ جاءت بعد ليال من الوحدة الملغومة بالكوابيس وشبق الأوراق الأزلي.
هكذا...دون سابق إنذار بعثت في عتمة غرفتي وميض حضورها الفضي وأعلنت بأنها تراقبني منذ زمن بعيد وتتشوق لغزو إنسانيتي.
هكذا...امتصت هلعي وجعلتني أطل من باب كأبواب السماوات الموصدة بوجه الإنس والجن منذ آلاف السنين،وأعلنت بأنها جنية تسعى لإنسان.
هكذا...كانت فكلما تشبثت بخيط التملص وأخبرها عن زواجي وزوجتي تردني بضحكة مشاكسة وتبلغني أن لها زوج أيضا لا تلتقي به إلا نهارا فهو على حد تعبيرها مهووس بملاحقة الإنسيات ليلا.
هكذا...كللت رأسي بأسباب وجدت بأنها مقنعة فقررت أن أمنحها الليل وأمنح زوجتي الأولى بعض النهار.
هكذا...وفقت إلى حين، بل اكتشفت امرأة أخرى أو لأقل لذة أخرى مصدرها ذلك العالم اللامرئي،كثيرا ما كلمتني عن اللذة وفضائلها في عالمهم،وكثيرا ما عرت بذلك عوالمي إذ كانت تقول:
_إنكم لا تجدون اللذة إلا من خلال تملككم لجوهر الأشياء الملموسة وهي بذلك آنية وسريعة الزوال،أما نحن فلذتنا أبدية حيث تتعانق مع اللاملموس فتتزاوج به حتى تدركه وتدركها ذرات العالم الخفي،وبالخفاء وحده تحافظ الأشياء على كينونتها ألفطريه بحيث لا تطالها تذمرات الملل والتكرار.
هكذا...كانت،وكنت مع اللذائذ ليال لايتملكني فيها الملل أو التقزز،فسرعان ما تلفنا سويا تلك القشعريرة الدافئة والرجفة اللذيذة حتى أحس باني محلقا في فضاءات من أحلام هلامية عصية التحطم أو الصدام،وفي ذروة النشوة يصاب جسدها الملقى بجانبي على السرير بالفتور، يتلاشى شيئا فشيئا حتى يتحول إلى نبع سراب شفاف لايحيطه غير خيط فضي يميز الانحناءات المرمرية لجسدها الشهي فيكون شاهدا ومؤكدا على وجودها الحتمي بجانبي ليدعوني لمعاودة الكرة مرات ومرات.
هكذا...انغمست بلذة الخفي الظاهر والشفافية المؤطرة بخيوط هي ما تبقى من نشوة طويلة ومستمرة هي لذة التلاشي.
هكذا...نسيت أو تناسيت زوجتي الأولى بعد أن أنجبت أطفالا كأمهم،تلك السحابه الهادئة والمرعدة، تلك المجبولة من جوهر التلاشي،هم مثلها ،فحالما أتلمس لذة حنانهم الطفولي أتذكر لذتها أو لذة ذلك العالم الذي زرعت فيه بذوري.
هكذا...بقيت بعيدا عن زوجتي وأطفالي الإنسيين،وفي لحظة ما انتابني فيها إحساس جامح بالذنب فقررت أن أزورها.
هكذا...قررت أن أمضي إليها باحثا عن خلاصي وعن استقراري الجسدي والفكري وأن أمنح فراشها البارد بعضا من دفء حضوري.
هكذا...انهارت كل لذائذي.
هكذا...حدث كل شيء،فبعد أن فتحت الباب لم أجد غير خيبة شفافية يؤطرها خيط الوجود الفضي الذي رسم على فراش الخائنة الغافية جسدا رجولي كامل النشوة والعري والتلاشي.
هكذا...عرفت بعد سنين أجهض خلالها منزلي وجميع منازل المدينة أطفالا كثيرون،كلهم يتمتعون بنشوة التلاشي،فصارت الشوارع مكتظة بتلك الانحناءات الفضية.
هكذا...عرفت أن لاشيء يدعوا للخجل فنحن جيل جاء من تجانس عالمين.
هكذا...تمزقت عتمتي بعد سنين عذاب وحروب وجوع ودمار ممزوج بتنبؤات أمي حين تنادي أحفادها:
_هذا زمان الخراب،إنكم أبناء الشياطين.
تقول هذا فتترك في دواخلي ودواخل زوجتي خجل دفين.
هكذا...مات المرح وماتت الطفولة بعد أن تقلصت تلك الخيوط الساحرة فصارت نادرة الظهور بل أصبحت معدومة تماما اذ لا لذة تستحق التلاشي هنا.
هكذا...اختلط علي كل شيء فما عدت أميز بين ما هو انسي أو جني.
هكذا...اختلطت علي جميع الصور.
هكذا...المرأة سعلات في الشوارع، أو غنوج تمشط الأفاعي أمام المرآة في البيت.
هكذا...الرجل غول مخيف أو شيطان لطيف.
هكذا...الأطفال شياطين وأقزام ونادرا ما ترى عليهم الأجنحة البيض وأكاليل النور.
هكذا...وهكذا...وهكذا...هلم خرابا ياخراب.
***
مشتاق عبد الهادي
الأستاذ مشتاق عبد الهادي
هكذا... اختلط المرئي باللامرئي لتخرج لنا بهذا النص
هكذا ...أنت مبدع دائما
هكذا... وهكذا ... وهكذا ... سنبقى في انتظار الجديد
تحياتي
( يثبت )