من كتاب "كيف نكتب التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمد قطب، دار الشروق، ص162-164
***
يكون التركيز في دراسة الحضارات عند الغرب على القوة السياسية والقوة الحربية والتقدم العلمي والتقدم التكنولوجي، وعلى طرز العمارة والملابس والأواني والحلي والزخارف ... إلخ.
أما هذا الدين فله في هذه القضايا كلها موقف آخر.
كيف؟
فأما غاية الوجود البشري فقد حددها الله سبحانه وتعالى تحديدا واضحا في كتابه الكريم {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ويفصل في كتابه المنزل تلك العبادة ويوضح أبعادها، فهي ليست شعائر تعبدية فحسب بل شيئا يشمل كل الحياة {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
ويزيدها تفصيلا فإذا هي تشمل:
1- الاعتقاد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
2- التوجه بالشعائر التعبدية لله وحده بلا شريك.
3- تطبيق شريعة الله وحدها دون غيرها من الشرائع.
4- التخلق بأخلاقيات لا إله إلا الله.
5- عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني لا بمقتضى أي منهج سواه.
وبذلك تصبح العبادة شاملة لكل نشاط الإنسان في الأرض وداخلة في كل أمور الحياة ... ومن ثم صار التركيز في التفسير الإسلامي للتاريخ والحضارة على هذا الشأن العظيم بالنسبة إلى الإنسان: هل حقق غاية وجوده؟ وما الوسائل التي حقق بها غاية وجوده؟
وتصبح السياسة والحرب والعلم والتكنولوجيا والفنون مجرد أدوات لتحقيق ذلك الوجود لا غايات قائمة بذاتها منضبطة بالضوابط الربانية ومقيسا صلاحها أو فسادها بتلك الضوابط، ولم تعد هي في ذاتها أهدافا ولا معايير.
فحين نفاضل بين حضارة وحضارة لا نسأل بادئ ذي بدء: كم بنى هؤلاء من المدن وكم بنى هؤلاء؟ وكم شقوا من الطرق؟ وكم صنعوا من الأسلحة؟ وفي كم معركة انتصروا؟ وكيف كانت حليهم وزخارفهم؟ وكيف كانت حفلاتهم وملاهيهم؟
إنما هذه أسئلة نسألها إن شئنا بعد أن ننتهي من السؤال الأول: هل عبدوا الله حق عبادته؟ أم زاغت قلوبهم فعبدوا غير الله؟ ويتفرع من هذا السؤال أسئلة: هل حكموا شريعة الله أم غيرها من الشرائع؟ هل كان منهج تفكيرهم وسلوكهم منضبطا بالضوابط الربانية أم كان منفلتا من هذه الضوابط مستندا لغير ما أنزل الله؟ هل تخلقوا بأخلاق الله أم بأخلاق الشيطان؟
ثم يجيء السؤال الخاص بالأدوات، ولكنه ليس شقا واحدا كما ينظر إليه مؤرخو الغرب إنما له شقان في آن واحد: أحدهما يسأل عن الأدوات في ذاتها في ماهياتها، في درجة تقدمها ودقتها وبراعتها ... إلخ. والآخر يسأل عن مجالات استخدامها: هل استخدمت لإعلاء كلمة الله وخدمة دينه؟ أم استخدمت في معصية الله والكفر بأنعمه؟