1
أوراق خريف العمر
ذبابةٌٌ عنيدة حطت على جبينه فأيقظته من غفوة تقدم العمر الإجبارية. رفع يده النحيلة وبكفه المعروقة حاول أن يهشها بعيدًا، ولكنها رفضت الحراك، كأنها تعلم أنه لايستطع هشها أو قتلها. تمددت بجناحيها مزهوة، تقترب من عينه الملتهبة المغطاة بأوساخ افرازات تيبست على سطحها. فتح عينه السليمة ومن تحت اجفانه المنتفخة حاول أن يعرف من أين أتت هذه الذبابة اللعينة. فرأى النافذة المطلة على الشارع المؤدى إلى منزله الفخم الذى يسكنه مع عائلته مزدحمًا، تحرك ببطء وأطل من النافذة فرأى جمهرة من الناس يهرولون هنا وهناك. سيارات فارهة مصطفة أمام منزله والبوابة مفتوحة على مصرعيها. نساء واطفال وضحكٌ ومرح . وخِراف معلقة من عراقيبها تنزف دماؤها،قدور تغلى ترسل أبخرتها الشهية معطرة أجواء الحضور حتى القطط والكلاب تصول وتجول. تنتظر نصيبها من الوليمة . أغلق النافذة، زحف نحو باب حجرته قلقًا، جمع اطراف جسده المتباعدة ممسكا بعصاته متحركًا يستطلع الأمر .بعد جهدٍ جهيد عبر الفناء واقترب من مدخل المجلس حيث الضيوف سمع صوتًا زاجرًا أرعبه حتى كاد أن ينكفئ على وجهه: ارجع إلى حجرتك ماذا أتى بك هنا؟ ارجع ..ألم أقل..
غفل راجعا وهو يهتز من رأسه حتى أخمص قدميه. وقد أعتراه الخوف الذى إعتاده عند سماع صوت ابنه ينتهره، كلما حاول الخروج من حجرته المنتبذة ركنا قصيا فى باحة المنزل متعدد الطوابق. الذى افنى زهرة شبابه فى تشييده. أسرع متعثرا نحو حجرته حتى لايسمع مزيدا من التوبيخ، أغلق باب الحجرة فتدحرجت دمعة سخينة على أخاديد وجهه، الذى مازال يحتفظ بملامح الصرامة التى كان يتميز بها، والتى جعلته مهابا فى منصبه العالى الذى شغره ردحا من الزمن. حتى تساقطت أوراق العمر البخيلة، وانتهت بجسده الهزيل الذى أنهكه داء السكرى اللعين، فقضى على بقية قوته التى كان يتمتع بها فى شبابه.
هناك عينان تراقب الحدث عن كثب. إنه خالد الحفيد الصغير هرع مسرعا نحو حجرة جَدّه وطرق الباب. مسح الجد دمعته وتهيأ للقادم حذرًا.
اندفع الصغير الى حضن جَدّه يقبله ويسأله بحنوٍ بالغ: أراك حزينًا ياجَدى.. لماذا لا تأتى مع الضيوف ياجَدّى....
ـ.سأله الجَد متأثرا: ماهى المناسبة يابنىّ؟
ــ المناسبة! ألاتعرفها؟ ياجدى لقد تخرج أخى أحمد
صمت الجَدّ برهة ثم قال: مبروك لم يخبرنى أحد..
كان يقاوم الغصة التى وقفت كالشوكة فى حلقه، وسؤال مُلح يفرض نفسه فى دواخله ــ إلى هذه الدرجة خرجت من حياتهم ـ كان خالد بن العاشرة لديه ذكريات ثرّة مع جَدّه فاسترسل فى الحديث معه .. والجَدّ شاردًا فى عوالمه لايسمع مايقوله فصاح : ياجَدّى ألا تسمعنى؟.. فالنذهب إلى النهر لتعلمنى الصيد اليوم لقد وعدتنى بذلك..منذ زمن... وتركت الخروج معى ....
ربت الجَّد على ظهر خالد ومسح بيده على رأسه قائلا: مرحى مازال هناك من ينتظرنى أن أعلمه شيئً..ا سنذهب للنهر ياصغيرى، وابتسم راضياً. قفز خالد فرحًا وهرول للداخل ليخبر ابيه المنشغل بضيوفه. شعر الجَّد بنشاط يسرى فى جسده، نهض واقفا وإرتدى جلبابه النظيف، اليوم سيتحرر من سجن الحجرة، لقد مضى وقت طويلا لم يخرج أو يتحدث. ظل يعد الزمن فى انتظارعودة حفيده، للذهاب إلى النهر وسعادة مبهمة تدغدغ حواسه عندما يتذكر النهر الذى يجرى خلف منزله..........
نواصل...