هذا المساء الهادئ أحيا في نفسه كوامن شوقه لعطر الوردة ..بدأت بحيرة الذاكرة تقذف بأمواج الذكريات المتلهفة التي كان النسيان يطويها .. نسيان ينزوي ببطء شديد في زوايا الأطلال التي كانت في يوم ما مرفأ للكلمات الودودة .. دفعه ذلك الفيض اللاشعوري إلى دخول مرسمه في تلك الساعة المتأخرة من الليل كانت الفوضى الأنيقة سمة المرسم الصغير .. أراد قبل الولوج إلى عالمه المثالي أن يرسم في ذهنه لوحه تجسد حلماً تشكيلياً يتيح له فرصة نقل وتنظيم مخزون الذكريات إلى فكرة لونية ناطقة .. إنها بالنسبة له متعة من نوع آخر.
بينه وبين ما يحاول تصويره الآن بضع سنين عجاف ومع ذلك فإن مرائيه ما برحت تملأ خاطره .. ذكريات ملأت نفسه بالحيوية وجعلت روحه تتوثب وتستبين مباهج الرؤي والأحلام في النقاء الروحي والوضاءة المرهفة .. تعود عندما يرسم أن يضع نسمة من روحه في كل لوحة من لوحاته .. من أجل هذا ظل فكره مشغولاً بمفردات لغة التشكيل حاول أن يربط بين هندسة وبناء العلاقات التشكيلية مع حركة الإيقاع اللوني .. تطلع إلى الأفق الأبيض فوق سطح اللوحة .. لجأ إلى قوس قزح المنعكس وراء البلور الصافي في أعماقه .. استعار منه ألواناً ليحول مساحة اللوحة إلى أرضية خصبة .. تضاعف الفرح في أعماقه وراح يستنبت بذور الوردة بدقة وعناية .. بدأ يتجاوب مع فكرته في نطاق مستويات الإلهام الروحي .. إنه لا يعرف ما الذي جعل يده ترتعش مع ضربات الريشة السريعة .. تحولت مساحة اللوحة في ثوانٍ قليلة إلى بقع وخطوط لونية .. تمكن من تفكيك اللون إلى قيم وجدانية عبرت عن أحساسه بحلمه المثير .. بدأ قلبه الهائج يحلم بالربيع مره أخرى .. شعر بنفسه يلامس حدود المطلق من السعادة عندما تفتحت في فضاء لوحته وردة الذكريات .. أحس أن براعمها ستزهر في قلبه .. سيتصاعد عبيرها مع أنفاسه .. يا الله كم من مرة أبحر في أحلامه وها قد بدأ عبير عطر الوردة يضوع في مرسمه .. نظر إلى لوحته ملياً ثم خاطبها قائلاً : أواه يا وردتي .. بالأمس التقينا على شاطئ الضباب كما في حلم ... حاولت أن أبني لك من أشواقي برجاً عاجياً يعانق السماء .. أتذكرين؟ .. خيل إليه أن صوتاً خجولاً تناهى إلى سمعه .. همست له الوردة : لست راغبة في سبر أغوار نفسك .. لكنني أعرف أن أحلامك غامضة !!.
قال : الغموض هو بداية كل شيء لا نهايته وأنني بملء الرغبة أود أن أكون مصبوغاً في ذاكرتك كبداية .. قالت: أحس بها لوحة تأوي حنينك وتختزن سرك .. لقد نجحت في تغطية جراحك بهذا اللثام اللوني البراق .. قال: أنا أصنع لوحاتي من مادة الأحلام .. أنا باق هاهنا وتمتد أمامي سهول الأمل الفسيحة ومع ذلك سأظل شيئاً من هذه اللوحة .. وستظل هذه اللوحة ملء النبض الذي يهزني.
ظهرت تباشير الفجر وفي غمرة بحثه عن عالمه الشفاف عن شيء صادق وحميمي من نفسه وروحه أحس بأن نبتة خضراء نبتت في قلبه .. نمت بسرعة تفتقت منها وردة حمراء تقاطر الندى منها فجري نهراً رقراقاً انطلقت من خرير مياهه نغمات رقيقة عذبة السمع.
ـــ تمت ـــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
ملاحظة: ( الوردة والندى ) ـ من مجموعتي القصصية المطبوعة والتي صدرت العام الماضي .