تاريخ ما أهمله التاريخ
من أعلام الشعر العربي
محمود سامي البارودي
من أعلام الشعر العربي المعاصر و رائد مدرسة الإحياء أو البعث الكلاسيكي (الشعر التقليدي) ، قال عنه الزيات " إن كان لامرئ القيس فضل في تمهيد الشعر وتقصيده، ولبشار في ترقيته وتجويده فللبارودي كل الفضل في إحيائه . "
ولد شاعرنا محمود سامي البارودي في القاهرة لأبوين من أصل شركسي ، وترعرع في نعمة أبيه حيث كان أجداده ملتزمي إقطاعية إيتاوات البارود بمحافظة البحيرة ، فجع بموت أبيه ولم يناهز الثامنة من عمره فقام بتربيته بعض أقاربه.
التحق البارودي بالمدرسة الحربية وتعلم فيها الفنون العسكرية حتى تخرج منها ضابطا ، سافر إلى القسطنطينية فدرس اللغتين التركية والفارسية ومكنته إجادته للغتين على الالتحاق بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية التركية وظل هناك سبع سنوات , اتصل في ذلك الوقت بالخديوي إسماعيل فألحقه بحاشيته وعاد به إلى مصر‘ ثم بعد ذلك عينه الخديوي معيناً لأحمد خيري باشا على إدارة المكاتبات بين مصر والأستانة .
تدرج البارودي في الرتب العسكرية إلى أن رقي إلى رتبة ( لواء ) ثم سافر إلى فرنسا وإنجلترا ودرس نظام جيشهما فازداد قوة في أدبه وخبرة في فنه , ولما عاد إلى مصر عُين قائداً لكتيبتين من فرسانه، واشترك في الحروب العثمانية في ثورة البلقان وإقريطش فأبلى فيها بلاءً حسناً .
تقلد البارودي الكثير من المناصب الإدارية حتى وصل إلى رتبة ( فريق ) تولى نظارة الجهادية قبيل الثورة العرابية وبعد ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لوادي النيل قُبض على زعماء الثورة العرابية ومنهم البارودي وحكم عليهم بالنفي إلى جزيرة ( سيلان ). لبث البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً عانى خلالها من الوحدة والغربة والمرض فسجل ذلك في شعره كما ترجم خلال منفاه كتباً إلى العربية وعندما بلغ الستين اشتد به المرض فعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1899م وكانت فرحته لا توصف بعودته إلى الوطن فأنشد أنشودة العودة التي قال فيها :
أبابلَ رأي العين أم هذه مصـر ُ
فإني أرى فيها عيوناً هي السحرُ
نواعسَ أيقظن الهوى بلواحـظٍ
تدين لها بالفتْكةِ البيضُ و السمرُ
فليس لعقلٍ دون سلطانها حـمىً
ولا لفؤادٍ من غشْيَانِها سترُ
فإن يكُ موسى أبطل السحرَ مرةً
فذلك عصر المعجزات و ذا عصرُ
لم يعش شاعرنا بعد عودته إلى مصر إلا خمس سنين قضاها بين الكتب ومحادثة الأصدقاء ومعالجة القريض , كف بصره قبيل موته , توفي في 12 ديسمبر 1904م .
جارى البارودي الأقدمين في شعرهم خاصة شعراء بني أمية كالبحتري والمتنبي وأبو تمام وغيرهم فاستطاع بموهبته الفذة من الشعور الفياض والذوق السليم أن يرتقي بالشعر من الضعف والركاكة إلى المتانة والفخامة فنجد في شعره كما قال الزيات " أرواح أولئك الفحول تحوم حول روحه وتحلق فوق أبياته ".
ومن جيّد شعره قوله يرثي زوجته :
يادهرُ فيم فجعتني بخليلةٍ
كانت خلاصة عدّتي وعتادي
هيهات بعد ك أن تقر جوانحي
ألماً لبعدك، أو يلين مهادي
ومن روائع شعره :
قالت أراك عليل الجسم‘ قلتُ لها
من شّفهُ الوجد أبلى جسمه السقمُ
قالت : فهل من دواء يستطبُ به
قلتُ : الوصالُ، فراحتْ وهي تبتسمُ
فبتُ في حيرةٍ، لا القلب مصطيرٌ
ولا الوصول إلى ما يشتهي أممُ
ومن أطاع هواهُ غير مكترثٍ
بما يـكونُ فعـقبى أمـرهُ ندمُ.
رحم الله محمود سامي البارودي فقد دافع عن الشعر العربي في عصر كان الشعر يعاني من الضعف والأنحطاط.