بدأ الظلام يهجر عالمنا ، غير انه لا زال مخيما على نفسي ، وانقشعت الغيوم من سماء المدينة ، والشمس صارت تغمرنا بأشعتها ، وازدادت الحركة في الشوارع ، واختفى السكون الذي عشته في تلك الليلة المظلمة. الايمان ، والمثل العليا في اعماقي ، كانا يلهماني الصبر والحمد لله ، غير اني صرت اشعر بالاعياء ، وفي الوقت نفسه كنت اخشى ان يراني ونتيجة الصدف احد الاصدقاء ، او المعارف من طلبة الجامعة ، علما سبق وان وجهوا لي دعوة لأمسية ادبية ، وكنت قد اعتذرت من حضورها. اذن ما العمل ؟ وما سيحل يا ترى بمصيري ولا املك لقمة من الخبز لاسد بها رمقي ! توجهت لحديقة لا تبعد كثيرا عن المحطة ، وفي احدى زواياها نمت على المصطبة ، اسوة بالمتسكعين. غطست في نوم عميق لأكثر من ساعتين ، واستيقظت على صوت شرطي يطلب هويتي ، اريته جواز سفري وتمعن به وتركني معتذرا. وجدت نفسي امام واقع مر ، ومستقبل مجهول ، فليس امامي الا ان اتصل ثانية بصاحبي مجبرا وأطالبه بالمبلغ. بيد اني كنت في صراع مع نفسي ، بين حياء وجرأة ، وبين الواقع والمثل العليا. ما يكون موقفي ان قابلني ونتيجة الصدف صديق ، او احد معارفي ؟ يكفي نظرة واحدة على قميصي ، او بنطلوني ، ليعرف منهما حقيقة وضعي ، ناهيك عن شحوب وجهي. حقا كنت في حالة مزرية جدا. استعنت بعمق بربي ، خالق السموات والأرض ، وتوجهت الى محطة القطار ، لأريح نفسي في غرفة الانتظار ، والساعة كانت تقارب العاشرة صباحا. كنت افكر ابان الطريق ، كيف سأقضى ليلتي القادمة ، وأنا منذ يوم ونصف لم اذق طعاما؟ تذكرت الطيبات التي كانت تقدمها لي والدتي في وطني ، وكيف كانت تراعي مشاعري.... تذكرت بغداد وبيتنا ، و تذكرت مدينة صباي والتي عشت فيها فقيرا بين اخوالي الفقراء الاخيار ، وأصدقائي الاوفياء. تذكرت والد صاحبي ، الذي قدمت له مبلغا كبيرا في وقتها دون تردد ، وكيف عاملني ابنه !!!!!!!! تذكرت سفري الشاق في سيارة الحمل المكشوفة ، وجلوسي بين اكياس البصل ، في جو لا يتحمله الانسان بسهولة !!!! وبدون ارادتي ، صارت الدموع تجري على خدي !!!! في هذه اللحظة العصيبة ، وأنا في عالم لا يحس به غيري ، سمعت شخصا يحييني قائلا : اهلا بصديقي صلاح الدين !!!!!!!!! التفت في الحال ، واذا بصديقي المحامي السويسري ، الذي قبل عام كان ضيفي مع عائلته. اندهش من وضعي ، وبادرني قائلا بما معناه (( اراك عصي الدمع شيمتك الصبر )) !!! ما تعمل هنا ، ولماذا اراك باكيا يا صلاح ؟ !!! تداركت الامر بسرعة ، وأخبرته ان حشرة قد دخلت عيني ، وأخرجتها ، الا انه ما اقتنع بكلامي ، ومن مظهري ، ادرك ان مصيبة قد حلت بي ، وأنا في وضع حرج جدا. سألته ما تعمل هنا ، فأجابني اتيت صباحا في مهمة تتعلق بعملي ، وسأرجع مساء الى بلدي. عرض علي شكا بمبلغ جيد الا اني رفضته. حاول بإصرار ان اقبله ، الا اني رفضته بشدة. اذ من السهل ان نأخذ مبلغا من صديق ، ولكن من الصعوبة ان نظمن ارجاعه. حاول ان يعرف حقيقة امري ، الا انه لم يتمكن ، ووجدته حائرا متألما !! دعاني لتناول الغداء معه في الساعة الواحدة ، واعتذرت له ، بحجة ارتباطي بمواعيد تمنعني من تلبية طلبه. حاولت ان اتخلص منه ، على الرغم من طيبه ، و اخلاصه ، وشهامته. اذا طغت الكاّبة عن حدودها الطبيعية ، يشعر الانسان بحيرة ، قد لا يستطيع القلم ان يعبر عنها. فتجف الدموع بعينيه ، وتتساقط اوراق الاحساس من شجيرة عاطفته ، ويصبح حجرا أصما ، يتدحرج على سفح همومه بلا مبالاة !!!! وهذا ما جرى معي ، اذ وجدت نفسي اتدحرج على سفوح همومي دون مبالاة. لذا كان تصرفي معه بشكل لم يألفه صديقي فيما قبل. سألني: عن محل سكناي وطلب عنواني. اعطيته عنوان البريد مضطرا ( خدمة لكل سائح في بعض الدول الاوربية ، بامكان الفرد ان يكتب اسم المدينة ، ورقم بريد الحارة التي يسكن فيها. فاّنذاك بامكان السائح ان يتلقى رسائل من احبابه ، وما عليه الا ان يذهب للبريد ، ويعطي اسمه ، فان كانت له رسالة ، او برقية ، بامكانه ان يستلمها ، بعد ان يدونوا اسمه ، ورقم جواز سفره في سجلاتهم ) ودعني صديقي متألما ، وكئيبا ، وقلقا على وضعي. ودعني مضطرا وبدون رغبة. وجدته يلتفت إليّ مرات ، لعدم قناعته بكل ما سمعه مني ، وأخيرا توارى عن نظري ، كما تتوارى السعادة وراء غيوم الهموم الدكناء. تلاشى الماضي من امامي ، وسخرت من حاضري ، وضحكت مستهترا بمستقبلي. صرت لا اعرف أروحٌ ، أنا أم طيف ، أم شبح !!!!!! قصدت المحطة ، جسما بلا روح ، وعقلا بلا تفكير ، كنت اسير كانسان لا يشعر بمن حوله ، بل ولا تحس به المارة ، كأني لم اكن. واقسى انواع الكآبة ، أن انسانا يحترق بهمومه ، ولا احد يشعر بحالته. ذهبت لمحطة القطار الرئيسية ، وجلست في غرفة الانتظار مفكرا ، ومهموما. كنت في صراع نفسي حاد ، وحائرا بأمرين ، احدهما ان اتصل بصاحبي وأطالبه بالمبلغ ، والأخرى عدم الاتصال بمن لا يملك خلقا و احساسا ووفاءً. أي كنت بين واقع يدفعني الى المطالبة ، وبين اباء مبطن بخجل يقول لي لا ، لا تطالبه. اخرجت ورقة من جيبي ، ونقشت عليها احاسيسي شعرا ، وكانت وحسب تقديري من ابدع انتاجاتي الشعرية ، والتي فقدتها مع ديوانين ، أي فقدت بهما عصارة حبي وصباي ، وسيأتي الكلام عنهما فيما بعد. من حسن حظي وبفضل الله ، كنت ومنذ صغري ، بل ولما ازل ، غنيا بأصدقاء اوفياء ، ومن مختلف الجنسيات والقوميات. اكن لهم الحب والتقدير ، وهم لا يقلوا عني وفاء وخلقا و اخلاصا. اصدقائي جزء من شرفي وكرامتي. وهم لا يقلوا عني كرامة وشعورا وطيبا. يصارحوني بضرائهم ، وسرائهم ، لذا كنت اتوقع ان صديقي السويسري سوف لا يتركني وحيدا نهب الرياح ، تائها في صحراء ازمتي القاسية. توقعت منه رسالة ، يتركها لي في البريد ، قبل سفره. قصدت البريد بنوع من الامل ، وأعطيت المسؤول جواز سفري . وسلمني رسالة سميكة ، وبرقية ، بعد ان وقعت على استلامهما. كدت ان اطير بهما فرحا. قرأت البرقية ، وكانت من صديق لي في باريس ، يخبرني ان اذهب حالا للبنك ، لأنه حول لي مبلغا برقيا لاستلامه. ذهبت مسرعا للحديقة التي نمت على احدى مصاطبها قبل ساعات ، وجلست في مكان بعيد عن انظار الناس ، وفتحت الرسالة وهي من صديقي المحامي السويسري ، فوجدته قد أرفقها بخمسة قطع بفئة مئة دولار ، وهذه ترجمة الرسالة حرفيا لكوني احتفظت بها مع اني نادرا ما احتفظ بالرسائل: (( تألمت يا صلاح من وضعك ، وتركتك مجبرا و انا في اشد انواع الكابة ، واتصلت في الحال بصديقك وصديقي ح.......في باريس وأخبرته بحالتك ، وانفجر قائلا بغضب : كيف تركته وحده في مهب الماسي يا ف..... ؟!!! وسيرسل لك في الحال خبرا عن طريق عنوانك البريدي. صلاح سبق وان اخبرتك عن كفاحي وأنا في عتبة شبابي ، وعملي كعامل بسيط ، اخدم في باخرة ، اخبرتك بوضعي المزري عندما كنت طالبا ، ولولا الدعم الذي تلقيته من صديقي كارل ، لما تمكنت ان انهي جامعتي ، ولما رأيتني بوضعي هذا ، فكيف يا صديقي تغلق بوجهي كل ابواب المساعدة وكأني لست صديقك ؟ !!!!!!! ارفق لك 500 دولار نقدا ، لعدم تأكدي انها ستصلك ، ورجائي اتصل بي تلفونيا ، في وقت متأخر من مساء اليوم ، لأحول لك مبلغا يعينك على حل مشكلتك الحالية.... تحية صديق متألم جدا. )) كنت اقرا الرسالة والدموع تنهمر من عيني دون ارادتي ، وحرت ما الذي سأعمله لارد الجميل لصديقين عرفا بسوء حالتي ، احتجت لوقت طويل حتى تمكنت ان اسيطر على عواطفي. كتبت في الحال رسالة الى صديقي ح..... في باريس ، شكرته على موقفه المشرف ، وأخبرته بالمبلغ الذي استلمته من صديقي السويسري ف.... لذا سأرجع له المبلغ كاملا لعدم حاجتي اليه. ، وكتبت رسالة اخرى لصديقي السويسري ، معتذرا عن تصرفي معه ، وشكرته على المبلغ ، وان شاء الله سأرجعه له بأقرب فرصة. وأخيرا ، كتبت رسالة لأخي في العراق ، اخبرته بسوء حالتي ، وطلبت منه ان يسافر في الحال الى استنبول ، وسأنتظره في محطة فتاح باشا ، في القسم الاسيوي بعد ان حددت له الوقت والتاريخ. ذهبت في الحال للبريد ، وأرسلتهم بالبريد المسجل و السريع (اكسبريس). وبعدها ذهبت للبنك وطلبت منهم ارجاع المبلغ لمرسله لعدم حاجتي اليه. بطني كانت خاوية فملأتها بما انعم الله علي ، ثم توجهت في الحال الى فندق بسيط ، قد لا تجد مثيله اليوم ، لو قدرته بالنجوم لحاز على ناقص 36 نجمة ههههههههههههههههه ونمت بعمق ، وفي الصباح تركت الفندق متوجها الى السفارة العراقية لأجرب حظي ، فوجئت ان السفير هو احد أصدقائي ، في الحال اصدر لي جوازا جديدا ، وودعته ، ورجعت بأول قطار الى البلد الذي ادرس فيه. وصلته مساء ، ودخلته بجوازي القديم حيث الاقامة لازالت سارية المفعول.وصلت البيت متعبا ونمت في الحال. أخوكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
آخر تعديل صلاح الدين سلطان يوم 04-05-2015 في 12:36 AM.