يتمردُ الماضي هذه الليلة ، يقتحمُ كوامني ، يأخذني إلى سراديب ذاكرة نائمة ، أحاول ُ التخلص منه ، لكنني أضعف هذا المساء من طرده ، والتخلص من هجومه المباغت ، ومحاصرته لي .
يهبّ عليّ كريحٍ هوجاء ، وأبدو كقشة ٍ في مهبّ هذه الريح ، تُحركني حيثُ تشاء .
هل أنا سوايَ هذا المساء ؟ هل أفتح ُالأبوابَ والنوافذ َ لهذا الماضي ...هل أستقبله ممزوجا بحاضر يكاد يتشابه معه في وجعه ودمعه ، في قسوته وغيابه ...تقتربُ مدينتي حاملة ً صور شهدائها ، صور تكاد تتكرر ..حتى وجوه المقاومين هي واحدة ، بإصرارها وإرادتها ورغبتها وطريقة موتها .
مدينة ٌ لم تعرف سوى الصمود والشموخ في وجه الغاصب المحتل ، مدينة كل واحد من أبنائها وبناتها ثائر ٌعلى طريقته .
مدينة ٌ تخلو من قاموسها الثوري مفردات الخنوع والإستسلام ..قدرُها أن تكون في مقدمة صفوف المقاومة ...
يا الهي ..ألهذه الدرجة أشبه ُ مدينتي ؟
أفتح ُ النافذة وأتركها مشرعة هذا المساء ...فيطلّ وجهك ِ، وكأنّه يريد أن يقول للماضي تنحّى عنه واتركه لي ..اتركه لي هذا المساء على الأقل ..
الموتُ في مدينتي يعيش بيننا ، يجلس معنا على رصيف المقاهي ، يشاركنا حديثنا ، الموت ُ مفردة ٌ نعرفها جيدا ، ندرك معانيها ، لا يختلف عن مفردات كثيرة نحفظها ونعيشها ونتنفسها ..
لم يبرحوا ذاكرتنا المملوءة بتفاصيلهم ، لم يغادروا حديثنا الصباحي ، يشاركوننا جلسات المساء ، ربما كل ما في الأمر أنهم جملوا لقبَ الشهادة ..كيف لي أن أصدّق أنّهم رحلوا وهم بيننا في كل وقتنا ويومنا وحزننا وفرحنا ووجعنا ...منهم من غادر وهو متوشح بندقيته ، ومنهم من باغتته رصاصة وهو عائد لمنزله على حاجز ٍعسكري ..حاجز نصبه العدو على طريق الموت ...هذه الطريق التي أصبحت نافذة لرقيّهم صوب َالسماء ..
يطلّ وجهك ِ هذا المساء ..تخافين عليّ أكثر ، وكأنني الثائر الوحيد ، تريدين أن تهربي بي ولو لساعات لروابي الحلم ..حتى نرشف قليلا من فنجان اللهفة.