ماالذي دفعني اليوم - وبعد أعوام خمس مرت على احتراق صندوق بريدي - لأسلك درب دائرة البريد من جديد ، رغم الضباب المتكاثف منذ ليلة امس ؟!! تراه الضباب كعادته أوقد ذلك الحنين الغريب ؛ لأوغل بين جزيئاته ،علّني أصادف زمناً مماضاع ؟ أو شعاعا خافتا ؛ينبعث من صندوق بريدي لكلمات كانت تتجاوز عمر الحصار الطويل الطويل ، و مازالت تهمس لي من أظرف المكاتيب :
"
- طرطوس تشتاقك ..
- انتظرك ِ ، وسكيكدة تنتظر ! ..
- ليتنا نقضي اوقاتا طيبة عند خليج عگار ..
- كل الأهل في حلب يتساءلون عن سر غياب مكاتيبك ، لاتقطعي عنّا هواء العراق ..
- سازرع مع زملائي نخلة قرب شجرة الزيتون عند مدخل المخيم ..
- هل بإ مكان شمس الإسكندرية ان تمنح الليل العراقي المحاصر بالبرد دفئا ؟
- يخيل إلي أن صوت عقبة بن نافع ينبعث مع كل أذان للصلاة من مسجد القيروان ؛ هاتفا : لاتنسوا اطفال ونساء العراق ..
- من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفع يدي بالدعاء لكم أن يرفع الله بلاء الحصار عنكم ..."
نعم ؛
كان الحصار في ليالي عرسه الوحشية ..!
نعم ؛
كان يمد مخالبه ، يغرزها في ثواني ودقائق سنوات الوطن ، وفي خضرة الأشجار فيتأخر الرّبيع عاما بعد عام حتى ضيعت الأرض مواعيدها ، ومامن سرب قطا مهاجر ٍكان قد عاد لي ، ولاعصفور دوري حط ّ على شباكي ..!
وألف نعم ؛
كنت أمارس الحياة خلف أسوار الحصار؛ في رسائلي ..! وأعيش حلم خلاص الوطن بين زوايا صندوق بريدي ، وأكتب البكاء كلما خطّ لي صديق : " كل البلاد بلادنا ونصيبنا منها بريد " *..!!
**********
تزايدت كثافة الحنين الموجع كلما توغلت في الدّرب أكثر ، وبَرَق َوميضُ الذّكريات مع كل ركن مررت به؛ وكنت قد نسيته ؛ بعيدا في مجاهل الذاكرة منذ ذلك الصباح الموشوم بالليل في وجداني ، منذ ذلك الصباح الموشوم بجرح مباغت لمّا علمت أن قصف مابعد منتصف الليل الفائت قد انتخب صندوق بريدي حطبا له ، واني أصبحت في عزلة حتى في وطني ، عزلة ستنأى بي عن تمر البصرة وقمح الحويجة وليل الموصل وأغاني الشّطرة ..!
فهل كان الطّيار الأمريكي يتربصني ؟ أو ينتظر لحظة ؛ يقطع بها شريانا من صبر ٍ وخفقة من ثبات ؟ هل كان يقرأني ومكاتيبي ؟ ويعلم أنّه حين يأخذ صندوق بريدي ، فإنه سيأخذ ماتبقى لي من جمال في زمان الحصار القاحل ، وإني ّ سأدخل زمان الإحتلال والتّشظي عارية الرّوح من الأمل حتى بمكتوب صغير مسافر من الجنوب ؟ !!
********
تراكمت ذكريات لحظاتي الأولى حين مررت ببقايا دائرة البريد في يومها السّابع من الموت ، تجمع الصّمت في ذاكرتي تماما كالصمت الذي سكنني لمّا دَخَلَتْ قوات الاحتلال شوارع المدينة أول مرة ! "لقد خرج الاف من الناس يشاهدونها وبقيت معتزلة في صومعتي ؛ فمشهد المارينز يمرون من تحت قوس النّصر شل ّ قدرتي على فهم أو استيعاب معنى ً لمايحصل ، ويحترق !!".. حتى أطل فجأة ذلك البيت المنعزل ،المصبوغ بالزهري الفاتح ، والذي ولّى وجهه شطر مغيب الشّمس ، كم كان يثير خيالي بحكايات القصر المسحورحين أمر به ، وحكايات المئة يوم ويوم ؛حين كانت تُتْلى على الأميرة زليخة لمّا وجدت صورة أمير جميل في قلب الوردة ،وصممت أن تبحث عنه لولا فكرة نساء القصر أن يقصُصْن َ عليها حكايات تنسيها أمير الوردة ..!! كم كان قلبي يميد يمينا وشمالا مع اهتزاز سعف نخلته التي جاورت بوابته بشموخ الوحيد في زمانه المكتض بالخوف والمجهول ..! وهاهو مازال بعزلته ولونه الزهري .. ونخلته !! يثير حنينا آخر َ لتفاصيل درب صندوق البريد ..
اضطرب القلب لحظة وصولي الاستدارة وعبورها ، كنت قد تهيأت لملاقاة عيني شرطي المرور"النّقيب حسام" اللتين تعودتا التّرحيب بي ببسمة ٍ ؛منذ يوم زجره لي حين كادت سيارة أن تدهسني ؛صباح خرجت من دائرة البريد وحقيبتي مضطربة معي ؛ كأنّها حَوَت طنا من المتفجرات ، وليس مكتوبا حمل إسما غاب في المنفى منذ عامين..!! . لكني اليوم لم اجد النّقيب حسام ولامظلته ! ، إنّما ككل شوارع المدينة ؛ وجدت ثكنة ً عسكرية يسوّرها ضباب اليوم الكثيف ، تتقاسمها وجوه غريبة ؛ تزرع مشانق بين الشمس وبيني تماما كصواريخ الحرب التي زرعت ركاما بين صندوق بريدي وبيني ...!!
*كل البلاد بلادنا ونصيبنا منها بريد ...مقطع شعري للراحل محمود درويش
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟