منذ فترة وأنا أعجز عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام ، بينما أتحرك إلى الخلف بخفة ورشاقة .
كل شيء حولي أضحى في تراجع ، جدول الأعمال .. رصيد المال .. قائمة الأصدقاء ، والعلاقة بيني وبين الأبناء أصابها الفتور، لأني أصررت على السير في الاتجاه المضاد .
أفكاري المشعثة نسيج عنكبوتي واهن اعتمر قبعة اليأس وتهادى في ملكوت عتمة تسربت إلى نفسي لحظة أظلمت السماء .
الشوق .. الحرمان ، وطيفه الرابض في الأحلام ، عناقيد وجع تجثم بكل ثقلها فوق صدري المسكون بلوعة الفقد ومرارة الحياة .
الوحدة مرآة تعكس رغبتي في ممارسة الغياب ،العزلة جدران تحجب وجه الحياة الكئيب ، لاشيء سوى تداعيات الفجيعة والذكريات تضاعف المأساة ، أرنو إلى الواقع بعينين متحجرتين ، لا الحاضر يمنحني السكينة ولا المستقبل يعدني بالأمان.
ما زلت أبكي عمره المسكوب على اسفنجة الحياة التي ابتلعت سنواته وذرته محض ذكرى في الأذهان ،وما بين أنين وعويل أجتر ذكريات من استنشقت أنفاسه وغفوت على إيقاع نبضه أعواما تلو أعوام .
على باب حجرتي تقرع أجراس الخطر محذرة إياي من مغبة المكوث طويلا تحت غيمة الحزن ، لكني كما الهارب من وعيه ، أمارس الفرار من القادم المجهول .
المصير المحتوم ، عاصفة هوجاء تقتلع بذور الثقة في جدوى الكفاح الممض من أجل حصاد ستذروه الرياح حتما ذات يوم ، دروب الحياة الوعرة ، ما هي إلا طرق ممهدة تفضي إلى نهاية المطاف سواء توقفنا أو واصلنا المسير ، فما الجدوى من التحذير إذن ! إذا ما أطبق المصير على صدر الأحلام المعجونة بالأمنيات .
على شفير الهاوية أقف .. أرنو إلى الحاضر بإشفاق ، الخوف يتعقبني، ينشب أظافره في جسد سكينة غادرتني،لا مجد لأيامي الواجفة ، المترنحة بين ذهاب وإياب .
هناك .. على الجانب الآخر من الوعي أغص بأحلام اشتريتها بحفنة أرق أدمى مقلتي ، ثمة من يقرع بلا هوادة أبواب متاهتي، يدعوني إلى الخروج من المرايا لاستنشاق الحياة ، أنصاع للأمر وأتقدم كالحمقى لأسبق ظلي ...
وكما الحالم بمتعة تفقده الصواب أجلس خلف مقود ما لأهب نفسي للريح .. للمغيب .. يتوارى الأفق فجأة.. العربة ترتد بسرعة جنونية إلى الوراء ، مثيرة الفزع في نفوس الخلق ..أدوس على الكابح بتوسل، لا يعمل !!
يعانق لهاثي لهاث العابرين والأبواق الهادرة كسياط تجلدني ، أعبر فوق المجزرة التي خلفتها حماقتي ،إنهم أطفال بعمر الزهور.. يا إلهي .. إنهم أبنائي...
آه لو تعيرني الحكمة بعض أسرارها لما تركت نفسي تغرق في العدم ، رغم أني ما زلت على قيد الحياة ..آه لو تمنحني الأسرار حكمتها ، لما تواريت خلف أسوار الصمت أعانق ما فات وأتنصل من واقع يحمل بعض دمي ،بل كل دمي ، إنهم يقفون بمحاذاة الريح التي تحاول أن تقتلعني ، يلوحون بأيديهم الصغيرة يدعونني للخروج من المرايا والعودة إلى حياة أسكرتني بمر الفجيعة وتركتني لرياح اليأس تعصف بي كما تشاء .
وحيث لا حكمة ولا أمل في غد مشنوق ،هذه أنا الآن، أضيق بما تبقى لدي من وعي ، أنثر الصور على الجدران مرتلة ترانيم الأحزان، يصفعني الألم كلما دعتني الحياة ، فأعدو وأعدو خلف الهذيان، منتشية بممارسة الغياب .